شكّل تشرين الأول الماضي واحداً من أسوأ الأوقات على قطاع الأعمال في لبنان منذ قرابة الثلاثة أعوامٍ ونصف العام. الأضرار التي لحقت بمختلف القطاعات الانتاجية والخدماتية لم تقتصر على خسارة رأس المال، نتيجة الدمار في مناطق القصف والتهجير، وإنما تخطّتها إلى هبوط المبيعات الآنية بشكل حاد، وتراجع الطلبات المستقبلية. ولعل الأخطر هو بدء ظهور علامات اليأس على الكثير من الشركات، بالتوازي مع التوقعات بإطالة الحرب، وفقدان الرغبة أو القدرة على الصمود. مع ما يحمل هذا التطور من نتائج كارثية على صعيد النمو والمحافظة على الاستقرارين المعيشي والاجتماعي لآلاف العمال والمستخدمين.
بالأرقام، سجّل القطاع الخاص، الشهر الماضي، أشدّ تدهور له منذ شباط 2021، إذ انخفض مؤشّر مديري المشتريات (PMI) من 47.0 في أيلول 2024 إلى 45.0 في تشرين الأول 2024. ويُعزى هذا الانخفاض، بحسب تحليل (Blom Lebanon)، الجهة المصدّرة للمؤشّر، إلى "التصعيد الهائل للحرب، فأدى ذلك إلى انخفاض حاد في "الطلبات الجديدة" و"أوامر التصدير الجديدة" و "النشاط التجاري". إذ اقتصرت "الطلبات الجديدة" على شراء الحاجات الأساسية فقط. وانكمش حجم "طلبات التصدير" نتيجة توجّه العملاء الدوليين إلى الشراء من دول أخرى مع ارتفاع تكاليف الشحن. وقد ترافقت هذه الانخفاضات مع ارتفاع معدّل البطالة إلى 34 في المئة، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP). وأبدى معظم المشاركين في الاستطلاع تشاؤماً بشأن نشاط الأعمال في الأشهر الإثني عشر المقبلة.
مطالب القطاع الخاص للحفاظ على السيولة
ومعروف أنّ الأوضاع الاستثنائية التي يمرّ بها البلد "تتطلب إجراءات استثنائية"، بحسب رئيس "تجمع الشركات اللبنانية"، الدكتور باسم البواب. وتتمثّل في مساعدة الشركات على إبقاء أكبر قدر من السيولة لدى المؤسسات الخاصة، وعدم سحبها منها في هذه الظروف العصيبة التي يسجل فيها أدنى مستوى للأعمال. وذلك من خلال تمديد المُهل بالنسبة إلى الضرائب، والضريبة على القيمة المضافة، والرسوم البلدية، والمستحقات للمؤسسات الاجتماعية، وكل ما له علاقة بالمالية". إذ باستثناء القطاعات التي تعنى بإنتاج المواد الغذائية، الأدوية، وأدوات التنظيف، وبيعها، فإنّ كلّ القطاعات الأخرى صناعية كانت أو زراعية أو تجارية أو خدماتية، تشهد "تراجعاً في المبيعات بنسبة تخطت 90 في المئة"، يضيف البواب. "خصوصاً في المناطق القريبة من النزاع". وللمحافظة على وجود هذه القطاعات، وحمايتها وتعزيز قدرتها على الصمود، يجب أن لا تقتصر المعالجات على تمديد المهل، وإنما على إعفاء الشركات من المتوجبات الضريبية وغير الضريبية لهذا العام تحديداً، والدخول في تسويات عن السنوات السابقة أيضاً، بسبب ما تتعرض له هذه القطاعات من أعباء متتالية، ابتداء من الانهيار، وحجز الأموال، وانفجار المرفأ، وإقفالات كورونا الإلزامية وصولاً إلى الحرب الجارية. وتتمثل أهمية هذه الإجراءات، بحسب البواب، في أنّها "تساعد المؤسسات على توفير السيولة لتسديد أجور عمالها أولاً، وتحمّل تراجع المبيعات ثانياً".
مراجعة موازنة 2025
بالإضافة إلى المحافظة على سيولة الشركات، يطالب القطاع الخاص المالية بـ "ضرورة إعادة النظر في مشروع موازنة العام 2025 وسحبه من مجلس النواب لتعديل أرقامه، كي تتناسب الأرقام مع الظروف الاقتصادية الحالية وإمكانات الجباية وتحصيل الإيرادات". فأرقام الإيرادات في الموازنة أصبحت متضخمة جداً، قياساً إلى الواقع الذي يمرّ به البلد وتراجع الأعمال. وستؤدّي بحسب البواب "إلى نتائج اقتصادية ومالية كارثية". فالموازنة بنيت على أساس التوقّع بجباية 4.8 مليار دولار، منها 4.6 مليار من الضرائب والرسوم، و196 مليوناً من الاستدانة. وقد اعتمد في هذه الأرقام المتفائلة على تحصيل الخزينة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري نحو 82 في المئة من الإيرادات المتوقعة سابقاً في موازنة 2024. مع الإشارة إلى أنّ التحصيل الفعلي يعتمد على سعر صرف 89500 ليرة لبنانية، مقارنة بـ 85500 ليرة في إيرادات موازنة 2024. وبناء على وتيرة التحصيلات هذه، توقعت المالية أن تحقق الايرادات نحو 23 في المئة زيادة في نهاية 2024 عمّا كان مرتقباً في موازنة 2024، أي ما يوازي 15 إلى 16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. كذلك كان من المتوقع ألّا يتجاوز إجمالي الانفاق هذا العام سقف الايرادات المحصلة، وهو مقدر بقرابة 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
تراجع الإيرادات وزيادة النفقات
كلّ هذه الآمال المالية و"التحصيلية"، للعامين الجاري والمقبل، ذهبت أدراج الرياح مع انتهاء الشهر الثامن. إذ شهد الاقتصاد من جديد "سقوطاً حراً" ابتداء من منتصف أيلول، وتوقّعت التقارير المحلية والدولية تراجع الايرادات العامة بنسب كبيرة. فقد قدّر برنامج الأمم لمتحدة الإنمائي أن تشهد المالية العامة تراجعاً في الإيرادات بنسبة 9.2 في المئة هذا العام. ومن المتوقع أن تقتصر الإيرادات المحصّلة للعام الجاري على 2.9 مليار دولار، تشكّل 82 في المئة من الإيرادات المقدرة بـ 3.5 مليار دولار. وستعجز المالية عن تحصيل 4.2 مليار دولار مع نهاية هذا العام كما توقّعت في ورقة "المالية العامة 2024 والموازنة العامة 2025". وسيراوح العجز بين 500 مليون دولار إذا استندنا إلى أرقام الموازنة الفعلية، ومليارين إذا انطلقنا من التوقعات التي كانت موضوعة. في المقابل من المتوقع أيضاً أن ترتفع النفقات أكثر من المقدر في موازنة 2024. وهو ما سيرهق المالية العامة ويدفعها إلى البحث عن مصادر استثنائية للتمويل. مع التقدير أن تكون عواقب مثل هذه التدابير مرهقة على الاقتصاد.
صندوق استثماري
خلافاً لحرب العام 2006، يستحيل على الشركات الحصول على تسهيلات ائتمانية للتعويض عن التراجع الهائل في الأعمال نتيجة تعطًل القطاع المصرفي. ومساعدتها تتطلب "خلق صندوق استثماري لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة"، بحسب رئيس الاتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال اللبنانيين فؤاد زمكحل. وهذه المهمة مطلوبة "من المنظّمات الدولية، التي يجب ألا يقتصر دورها على إرسال المساعدات العينية والانسانية، وإنما تعزيز الصمود من خلال دعم الشركات. خصوصاً أنّ هذه الشركات التي تشكل 90 في المئة من السوق المحلية، خسرت سيولتها، كما خسرت جزءاً كبيراً من عمالها، وتدهورت سوقها المحلية، وخسرت ثقة زبائنها الدوليين، وليس في إمكانها الصمود أكثر من بضعة أشهر، وإذا انهارت فستكون ضربة قاضية إلى الاقتصاد اللبناني".
الهموم الكثيرة التي تشغل بال القطاع الخاص لا تقتصر على الصراع من أجل البقاء في ظلّ الحرب، وإنما على القدرة على النهوض بعد انتهائها. فبعد توقف الحرب يحتاج لبنان إلى استثمارات ضخمة لإعادة بناء البنية التحتية المتضررة والمدمرة، التي لا وجود لها حالياً. لذلك، يتعيّن على السلطة، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، البدء في تنفيذ الإصلاحات اللازمة من أجل تسهيل الاستثمارات الأجنبية والتدفقات المالية لدى انتهاء الحرب للمساعدة في إعادة بناء البنية التحتية المدمرة وبدء عملية التعافي الاقتصادي.