كثيراً ما تعمد كلّ جهة متحاربة إلى تعظيم خسائر الأخرى، والتقليل من حجم الأضرار التي أصابتها. وكثيراً ما يكون الغرض من هذه السردية معنوياً أكثر منه مادياً، يهدف إلى رفع المعنويات وتعزيز الموقف المستقبلي في المفاوضات. في لبنان يحدث العكس. إذ يقيم المسؤولون "حفلة" مزايدات شعبوية على التكاليف التي يتحمّلها الاقتصاد جرّاء الحرب. "التمسكن"، برأيهم، ولعب دور البريء المعدم، على "خشبة" الأمم، يجذبان مساعدات أكبر. يمثّلون أمام دول ومؤسسات نعتمد عليها لمعرفة أرقام الاقتصاد الكلّي والجزئي، بسبب غياب الإحصاءات الداخلية وتحوّل الأرقام وجهة نظر، وهذه مصيبة، لأنّ المسؤولين يعلمون ذلك. وإن كانوا لا يعلمون، فإنّ لسان حال الدول تجاههم هو ما قالته، بتصرّف، أمّ آخر ملوك الأندلس لابنها: "نعم، اِبكِ كالنساءِ (دولة) لم تدافع عنها كالرجال"، وهذه المصيبة الكبرى.
يقدّر المسؤولون اللبنانيون الخسائر التي لحقت بلبنان، إلى اليوم، جراء الحرب بنحو 20 مليار دولار. ويصرّحون بأنّ معدّل البطالة أصبح يناهز 70 في المئة. وأنّ الكلفة التي تحملها القطاع الزراعي جراء العدوان 3 مليارات دولار، وذلك حتى قبل تفلّت الحرب من "قواعد الاشتباك"، وتوسّعها في أيلول لتشمل المزيد من المناطق جنوباً وبقاعاً. صحيح أنّ الخسائر كبيرة، ولا يمكن عاقلاً أن ينكرها، لكن في ظلّ استمرار الحرب، والعجز عن إجراء مسح شامل للقطاعات والمناطق المنكوبة، وعدم وجود أرقام محدّثة للإحصاء المركزي، وهي الجهة الرسمية الوحيدة المنوط بها إصدار الإحصاءات، فإنّ جميع الأرقام تقديرية في أحسن الأحوال، ووجهة نظر بشكلها الأسوأ، تتماشى مع الهدف العام المتمثل راهناً في جذب أكبر قدر من المساعدات. مع العلم أنّ المساعدات، بالاستناد إلى التجارب السابقة، ابتداء بمؤتمر سيدر 2017، ستبقى محصورة بالإنسانية، ولن تتحوّل إلى مادية نقدية، مهما بلغت الخسائر نتيجة فشل الدولة في تطبيق الإصلاحات.
يقدّر المسؤولون اللبنانيون الخسائر التي لحقت بلبنان، إلى اليوم، جراء الحرب بنحو 20 مليار دولار.
تقدير نسبة البطالة
في محاولة علمية لتقدير نسبة البطالة في لبنان خلال هذا العام، استعان فريق الأبحاث الاقتصادية في "بلوم بنك" بـ "قانون أوكون" – (Okun’s) . ينص القانون على أمرين أساسيين:
- كلّ زيادة بنسبة 1 في المئة في معدّل البطالة ستقابل بانخفاض بنسبة 2 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للاقتصاد.
- كلّ نمو اقتصادي بنسبة 3 في المئة يقابل بانخفاض معدّل البطالة بنسبة 1 في المئة.
تثبت هذه النظرية صحّتها إذا طبقّناها على الفترة الممتدة بين العامين 2018 و2022. إذ إنّ التغير التراكمي في نمو الناتج المحلّي الإجمالي في هذه الفترة بلغ (-35.9) في المئة بحسب البنك الدولي، وأدّى إلى ارتفاع معدّل البطالة في هذه الفترة بنسبة 18.2 في المئة، من 11.4 في المئة في العام 2018 إلى 29.6 في العام 2022. ويتطابق هذا المعدّل للبطالة مع الرقم الذي كشفت عنه إدارة الإحصاء المركزي للعام 2022. أمّا بالنسبة إلى العام الجاري، فإنّ التغير التراكمي في نمو الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة (-9.5) في المئة، بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، سيزيد نسبة البطالة 4.8 في المئة. وبالتالي، يرتفع معدّل البطالة من 29.6 في المئة إلى 34.4 في المئة هذا العام. ويعتبر فريق الأبحاث الاقتصادي في "بلوم بنك" أنّ التقدير معقول برغم أنّه قد يكون منخفضاً إذا تفاقمت حدة الحرب في الشهرين الأخيرين من العام 2024، والعكس صحيح.
ارتفاع مخاطر الهجرة على سوق العمل والنمو
برغم أنّ "قانون أوكون" مفيد في فهم العلاقة القصيرة الأجل بين البطالة والنمو الاقتصادي، لا يحصل على الآثار الطويلة الأجل للبطالة على الاقتصاد. إذ يمكن أن تؤدي البطالة على المدى الطويل إلى انخفاض في رأس المال البشري، وقد تؤثّر سلباً على النمو الاقتصادي في المستقبل. وممّا يؤثّر سلباً على الرأسمال البشري أيضاً هو الهجرة بأعداد كبيرة كما يحصل راهناً في لبنان. إذ تقدّر الأرقام هجرة 100 ألف شخص بين عامي 2018 و2022، في حين نما عدد السكان سلبياً بمعدل (-1.3) في المئة في تلك الفترة، وهذا الرقم يبقى أقلّ من "معدّل الإحلال". ويُقدّر مغادرة نحو 200 ألف منذ بدء تفاقم الأعمال الحربية في العام الجاري. وعليه، بات المجموع مغادرة 300 ألف لبناني، معظمهم من أصحاب الاختصاصات الذين يعوّل عليهم في عملية النهوض والتعافي.
الخسائر في القطاع الزراعي
زراعياً، فإنّ التقديرات لا تقلّ مبالغة أيضاً، فالحديث عن تكبّد القطاع خسائر بمليارات الدولارات لا ينسجم مع الواقع. فبحسب آخر التقديرات للإحصاء المركزي، والمنشورة على موقع "بلوم إنفست"، تبلغ مشاركة الزراعة في الناتج المحلّي الإجمالي 5 في المئة، وبقية 3000 مليار ليرة من أصل ناتج مقدّر بـ 61000 ألف مليار ليرة (الأرقام محتسبة على أساس سعر صرف 1500 ليرة). وعليه، فإنّ قيمة كلّ القطاع على مساحة لبنان تبلغ ملياري دولار. وإذا افترضنا أنّ المساحات الزراعية المتضرّرة في الجنوب والبقاع تشكّل ما بين 20 و30 في المئة من مجمل المساحات الزراعية، فإنّ انتاج القطاع الزراعي سيتراجع في العام 2024 بنسبة 400 و600 مليون دولار. أمّا الخسائر في رأس المال نتيجة احتراق الأشجار وتلف المنشآت وهلاك الماشية، فهي تحتاج إلى وقف الحرب لقياسها بدقة وتقدير قيمتها، إلّا أنّها لن تصل إلى 3 مليارات دولار.
أمّا إذا أخذنا أرقام البنك الدولي التي تقدّر الناتج بـ 20 مليار دولار، وطبقناها على القطاع الزراعي، فيمكن استنتاج أنّ مساهمة القطاع الزراعي في الاقتصاد اللبناني لا تتعدّى مليار دولار، وخسارة ما بين 20 و30 في المئة من هذا الناتج، نتيجة الحرب ستؤدي إلى تراجع الناتج ما بين 200 و300 مليون دولار فقط.
المشكلة أنّ ابتعاد الأرقام التقديرية عن الواقع لا يساعد على زيادة المساعدات، إنّما يدفع إلى استهزاء الخارج بلبنان. ويعمّق شكوكه في محاولة ابتزازه لتحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال على غرار ما جرى في ملف النازحين وغيره من الملفات.