بعد حرب مستمرة منذ نحو سنة مرّت على اللبنانيين كأنّها دهر، "تجسّدت" خسائر موسم الزيتون على أرض الواقع. عشرات آلاف الأشجار واجهت "عربدة" آلة قتل العدو، فاحترقت، وأسالت معها دموع مزارعين في مراكز إيوائهم البعيدة. لم ينفع هذه الاشجار اتخاذها منذ الأزل رمزاً للسلام، فالغاية ليس القضاء عليها فحسب، إنّما حرمان لبنان من نموّها مجدّداً لأجيال وأجيال.

تسهيلاً لعملية إحصاء الخسائر، التي تتزايد يومياً باطراد، يمكن القول إنّ الحرب قضت على 90 في المئة من موسم الزيتون في جنوب لبنان والبقاع الغربي. وهذا الموسم يشكّل "حوالى 30 في المئة من مجمل الإنتاج الوطني"، بحسب مؤسس "بستان الزيتون" المهندس وليد مشنتف. "وهذا يعني خسارة لبنان 25 في المئة من إنتاج الزيت والزيتون للعام الجاري". العدّاد الرسمي لوزارة الزراعة توقّف قبل أشهر على رقم 65 ألف شجرة زيتون أُحرقت على نحو كامل. والمتبقّي من أشجار "تسمّم" بالفوسفور الأبيض وبارود القذائف، و"تلوّث" بأيدي السارقين القذرة. والنتيجة: فقدان أبناء تلك المناطق مورداً مالياً أساسياً، أو رديفاً، يعتمدون عليه لتأمين مصاريف شتائهم. وخسارة لبنان إنتاجاً ذا جودة عالية، مع ما يعنيه ذلك من احتمال ارتفاع الأسعار وفقدان القدرة التنافسية في الأسواق الخارجية. وبالتالي المزيد من التضخّم في قطاع الغذاء داخلياً، وتراجع تدفّق العملة الصعبة من الأسواق خارجياً نتيجة ضعف التصدير.

تحدّيات كلفة الانتاج

المشكلة الأخرى التي يعانيها القطاع تتمثّل في ضعف الانتاج هذا العام في العديد من المناطق، مقارنة بالسنوات السابقة. إذ "من المستبعد أن يتجاوز مجمل الانتاج 12 ألف طن"، برأي مشنتف، "مقارنة بما بين 20 و25 ألف طن في سنوات الحَمل الجيد". تُضاف إلى شح الموسم، زيادة كلفة الانتاج، من حراثة وتسميد وري، ومغادرة عدد كبير من العمّال المناطق الزراعية، ومطالبتهم بأجور تصل إلى 25 دولاراً عن كلّ يوم عمل، واشتراط المعاصر تقاضي الأجرة نقداً وليس عينيّا، على غرار السنوات السابقة، نتيجة العجز عن تصريف الزيت وارتفاع كلفة الطاقة ارتفاعاً كبيراً جداً. هذه العوامل كلها ستؤدّي إلى زيادة سعر صفيحة زيت الزيتون عن سعرها في العام الماضي. "إلّا أنّ هذه الزيادة لن تتجاوز 15 في المئة"، بحسب مشنتف. و"ذلك لعدم القدرة على ضبط الزيت المهرّب إلى لبنان من الدول المجاورة، وتراجع أسعار الزيت في الأسواق العالمية هذا العام. إذ أصبح لزيت الزيتون سعر شبه موحد في مختلف الأسواق، على غرار بعض المنتجات الغذائية وغير الغذائية التي تباع في الأسواق العالمية. وهذا يتطلّب من المزارع اللبناني العمل أكثر من أيّ وقت مضى على أمرين أساسيين:

- تحسين الجودة من الحقل إلى الرف. والالتزام بالمعايير العالمية من حيث النوعية.

- تخفيض كلفة الانتاج من خلال استخدام التقنيات الحديثة ابتداء من الاعتناء بالحقل، مروراً بالنقل والعصر، وصولاً إلى التغليف والحفظ.

يعتبر مشنتف أنّ الكثير من المعاصر التي تُصنف حديثة هي "خردة"، لا تؤثر في الكميات المنتجة من الزيت فحسب، إنّما في النوعية ايضاً. والأمران يكلّفان المزارع حرمانه من بيع إنتاجه في الأسواق العالمية التي "تتلهف" على زيت الزيتون ذي الجودة العالية. وبالتالي، اضطراره بعد فترة إلى حرق الأسعار لبيع الانتاج محلياً. وهذا ما يحرمه من الربح، والقدرة على تعويض الكلفة الانتاجية والعودة إلى الأرض في العام المقبل.

السعر سيرتفع، ولكن على أن الزيادة في الكلفة الانتاجية سترفع سعر صفيحة الزيت هذا العام إلى نحو 165 دولاراً، مقارنة بـ 150 في العام الماضي. وهذا السعر هو "الحدّ الأقصى الذي يمكن أن يشهده الزيت في بداية الموسم"، برأي مشنتف. وهو يختلف بين منطقة وأخرى باختلاف وفرة الموسم، وتوفّر اليد العاملة ومقدار أجرها. وكثيراً ما يكون الانتاج في شمال لبنان وافراً وذا سعر أدنى. وهذا ما يخفض سعر مبيع الزيت بشكل عام في الأسواق الدخلية". وبحسب رئيس تجمع الهيئات الممثلة لقطاع الزيتون في لبنان الشمالي جورج عيناتي، فإنّ "الموسم يشهد حملاً لا بأس به في العديد من المناطق، برغم جميع التحديات البيئية والعسكرية والاقتصادية". وبرأيه، فإنّ "الكمية المنتجة من الزيت تكفي السوق المحلّية وتفيض عنها، بشرط إدارتها بشكل جيد". وعليه، حذر عيناتي التجار من "التلاعب بسعر تنكة الزيت ورفعه على المستهلك اللبناني. أو بيع الزيت الأجنبي المغشوش والمزور على أنّه زيت بلدي".كذلك دعا "المستهلكين إلى التواصل مباشرة مع المزارعين لشراء الزيت والزيتون والصابون. فيحصلون على الزيت البكر الطبيعي الوطني من مصدره بسعر مناسب، ويستفيد المزارع".

تحديد "أجرة" العامل

في موازاة ذلك، أصدر "تجمّع الهيئات الممثلة لقطاع الزيتون في لبنان الشمالي" بياناً حدّد فيه أجرة عامل القطاف بـ 10 دولارات في اليوم، وأجرة عاملة القطاف والجمع بـ 8 دولارات. ويُستثنى من هذه التسعيرة الملاكون الذين يؤمّنون لعمالهم السكن والماء والكهرباء، وكبار المزارعين والضامنون الذين لديهم أكثر من شهر ونصف الشهر عملاً، والذين سبق أن اتفقوا مع العمال على تسعيرة أقل من ذلك.

ما زال الزيت اللبناني، على الرّغم من أهمّيته، خارج الأسواق العالمية. باستثناء بعض العلامات التجارية المعروفة التي تصدّر إنتاجها وتلاقي إقبالاً كبيراً عليها في الخارج، فإنّ معظم المزارعين يعتمدون على بيع الانتاج محلياً بأسعار تتراجع تدريجياً كلّما طال وقت تصريف الانتاج، وبروز الحاجة إلى الأموال النقدية. ودخول سوق زيت الزيتون العالمي، الذي أصبح تنافسياً بشكل كبير، يتطلّب، بحسب مشنتف، توفّر 3 عوامل أساسية، هي الجودة والسعر وصحة المعلومات. "فالتصريح المخطئ، أو غير الدقيق عن أوصاف المنتج، يكلّف المزارع حرمانه من التصدير وإتلاف المنتجات من جهة، ويسيء من جهة ثانية إلى سمعة بقية المنتجات اللبنانية". وهذا ما يتطلّب، في نظر مشنتف "جهداً وطنياً كبيراً على الصعيدين الرسمي الخاص للنهوض بهذه الزراعة، وحمايتها وإخضاعها للمراقبة الدقيقة لما تكتنزه من فرص تؤدّي إلى زيادة الاستثمارات المباشرة والتصدير ورفد الاقتصاد بالنقد الأجنبي".