في اليوم الثامن والعشرين على توسعة العدو الإسرائيلي خريطة استهدافاته في لبنان، دمّرت غارات جوية فروعاً لـ "جمعية القرض الحسن" في ضاحية بيروت الجنوبية. البقاع وجنوب لبنان. وكانت هذه الجمعية المالية التي تأسست في العام 1982، قد شهدت منذ العام 2006 تطوراً لافتاً على صعيدي حجم الأعمال وعدد الفروع. وازدادت أهمّيتها بشكل أكبر بعد انهيار القطاع المصرفي في العام 2019، واعتمادها من قبل آلاف المواطنين مركزاً لحفظ مدخّراتهم ولا سيما الذهبية منها، ومصدراً لنيل القروض الميسّرة من دون فائدة.

يتمثّل الدور الأساسي المعلن لهذه الجمعية بـ"إعطاء القروض المالية مقابل ضمانات عينية"، بحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. "بشكل ألّا يتجاوز المبلغ المقترض 50 في المئة من قيمة الضمانة، ويمكن أن يصل المبلغ إلى 70 في المئة حدّاً أقصى. وخلافاً لما يعتقده كثيرون، فإنّ هذه التسهيلات المالية ليست محصورة بمذهب معين، إنّما مفتوحة لكلّ اللبنانيين من مختلف المذاهب والمناطق. وقد استفاد فعلياً من هذه القروض، خصوصاً خلال السنوات التي أعقبت الانهيار، عدد كبير من اللبنانيين المتنوعين طائفياً وعقائدياً. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه أيضاً من خلال التوزع الجغرافي لفروع "القرض الحسن" التي شملت مختلف المناطق جنوباً وشرقاً وشمالاً".

التخلّف عن إرجاع الذهب

تتعامل "الجمعية" من الناحية النقدية بالدولار حصراً، حتّى قبل أن يحطّ الانهيار أوزاره على العملة الوطنية. فالقروض تعطى بالدولار، وتُسدد الأقساط بالعملة نفسها. وما حصل بعد فترة من اندلاع الحرب، أنّ جزءاً كبيراً من المقترضين تخلّف عن السداد نتيجة التهجير وفقدان مصادر الدخل الأساسية، بشكل خاص، وتراجع الأعمال وإقفال المؤسسات في الجنوب والبقاع والضاحية بشكل عام. فتمّ الاتفاق بين الجمعية والمقترضين على إجراء مقاصّة لتسديد المتبقّي من القروض بحيث تُحسم المستحقّات من فرق ارتفاع سعر الذهب الذي شهد ارتفاعاً بنسبة 24 في المئة منذ مطلع العام 2023، من 2053 دولاراً للأونصة إلى 2731 في تشرين الأول الجاري. وهذا ما سمح للمقترضين باستعادة الذهب الموضوع بالأمانة، وتسييله للاستفادة منه في تلبية متطلّباتهم الحياتية الضرورية. إلّا أنّ "الجمعية" "متوقّفة عن إرجاع الذهب منذ خمسة أشهر من دون ذكر سبب واضح"، يقول شمس الدين، "بعضهم يقول إنّ الذهب محفوظ خارج لبنان، وبعض آخر يعتقد أنّه طمر تحت الأنقاض جراء الضربات على الضاحية الجنوبية". كذلك "توقّفت الجمعية عن الإقراض واستيفاء مستحقات القروض على السواء، منذ التاريخ نفسه".

عدد كبير من الأعمال

تملك الجمعية عدداً كبيراً جدّاً من الأعمال مقارنة بالجمعيات المشابهة، إذا حصرنا دورها بالائتماني فقط. فقد بلغت قيمة التسليفات الإجمالية 3.5 مليار دولار"، بحسب شمس الدين. "منها 500 مليون بين العامين 2018 و2019"، و"تحتفظ بحوالى 400 مليون دولار من احتياطي الذهب". وهي سعت في السنوات الأخيرة إلى تنويع خدماتها فأطلقت قروضاً جديدة تستهدف المشاريع الزراعية والحرفية، وتركيب الطاقة الشمسة، والزواج. وشجّعت الجمعيات والمؤسسات على إنشاء صندوق تعاون اجتماعي مشترك، يمكّنها من الحصول على قروض سهلة السداد، دعماً لمفهوم التكافل والتعاون في ما بينها.

التداعيات

يستبعد المصرفي جان رياشي أن يكون لإضعاف دور القرض الحسن تداعيات على الوضعين المالي والنقدي بشكل عام. إذ "لم يكن هناك أي نوع من الترابط بين الجمعية والنظام المالي اللبناني". إلّا أنّ الآثار السلبية ستنعكس حكماً على المتعاملين مع الجمعية، وأكثريتهم من الذين يواجهون اليوم تهجيراً قسرياً من الجنوب والبقاع والضاحية، وعددهم تجاوز 1.3 مليون نسمة. وتضرّرُ هذه الفئة الواسعة سيكون له ارتدادات على الوضع الاقتصادي، من حيث تراجع الاستهلاك، والقدرة على تمويل المشاريع، والحدّ من الإنفاق، وازدياد معدّلات الفقر والبطالة. وإذا كان من غير المعروف على وجه الدقة، برأي رياشي، مصير الذهب والمال النقدي، وهل نُقلا إلى أماكن آمنة قبل الضربات، أو أُتلفا، فإنّ الأكيد هو "تراجع القدرة التشغيلية للجمعية نتيجة الخسائر التي منيت بها جراء تهدم مركزها الرئيسي وفروعها في العديد من المناطق، مع ما تحتويه على تجهيزات ومعدات. وهذا ما يتطلّب وقتاً طويلاً قبل أن تستعيد عافيتها".

تعرّضت "جمعية القرض الحسن" في العامين 2007 و2016 لعقوبات مالية أميركية 

تراجع الاقتصاد الرديف

من الجهة المقابلة، يرى المستشار المالي ميشال قزح أنّ "تراجع دور الجمعية في الاقتصاد اللبناني، يساهم في الحدّ من الاقتصاد النقدي الموازي". فأعمال التسليف والحفظ والإيداع وإصدار بطاقات إئتمان وتركيب أجهزة الصرافات الآلية في الفروع تعمل تحت مظلة التسهيلات الائتمانية التي تدرجها الجمعيات في نظامها الداخلي عند الاستحصال على رخصة من وزارة الداخلية، في حين أنّ الحجم الهائل للجمعية من الناحية المالية كان يلزمها بالترخيص من مصرف لبنان والعمل تحت سلطة قانون النقد والتسليف، ورقابة هيئة الأسواق المالية. وهذا ما لم يحصل في السنوات الماضية. وشجّع على توسّع الاقتصاد الرديف البعيد عن المراقبة، والذي أدّى إلى زيادة الضغوط الدولية على لبنان، والتهديد بإدراجه على اللائحة الرمادية للدول غير المتعاونة في مجال تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وهو التقييم الذي ينتظره لبنان بعد أيام قليلة عقب اجتماع مجموعة العمل المالي. كذلك أدّى التوسع الكبير في أعمال الجمعية، ولا سيما قبل سنوات الانهيار، إلى "تضرّر القطاع المصرفي اللبناني"، من وجهة نظر شمس الدين. "فهذه الجمعية تعطي قروضاً سنوية بمئات الملايين من الدولارات من دون فوائد. وهذا ما جعل القطاع المصرفي يسلب حصّة وازنة من السوق لمصلحتها".

بين العقوبات والشرعية

تعرّضت "جمعية القرض الحسن" في العامين 2007 و2016 لعقوبات مالية أميركية على خلفية ضلوعها في نقل الأموال وتبييضها لمصلحة أفراد وكيانات عسكرية ومساهمتها في "تقويض استقرار الدولة اللبنانية". وعليه، يصبح من المستحيل على الجمعية الانضواء تحت الشرعية المالية اللبنانية، فلو كانت تخضع لوصاية مصرف لبنان، لكانت أزيلت من النظام المالي بعد العقوبات على غرار البنك اللبناني الكندي وجمال ترست بنك. وللمفارقة، "تبيّن أخيراً أنّ النظام المالي الشرعي عجز عن حماية المودعين ودرء مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب"، يعلق رياشي ساخراً، ليدلل على أنّ "تشريع "القرض الحسن" لم يكن ليحول دون وقوع المشكلة وتجنيب شريحة من اللبنانيين ضياع أموالهم ومدخراتهم".

بين تأثيرات تراجع دور "جميعة القرض الحسن" بشقّيها الإيجابي و"السلبي"، يبقى المواطن اللبناني المتضرّر الأكبر من جميع الأزمات. فلا يكاد يخرج من حفرة حتى يقع في أكبر. وهذا ما يبرهن مرة جديدة على أهمية تنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية لاستعادة الثقة بالدولة وتشكيلها مظلة حامية للجميع.