ينطلق كثيرون من مقولة "كل شيء مباح في الحب والحرب" لتبرير أفعالهم. إلّا أنّ أسوأ تلك الإباحات التي تتقدم أذيتها على نيران الأعداء، هي استغلال الأصدقاء. فـ"ظُلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهنّد"، قالها الشاعر طرفة بن العبد قبل مئات الأعوام، وما زالت تصحّ في هذا الزمن. ففي لبنان نشهد مع كلّ أزمة فصلاً من فصول الاستغلال الذي يرخي بثقله فوق أكتاف الطبقات الفقيرة والاقتصاد على السواء، والمبرّرات كثيرة.

يشكو مستهلكون كثر من فورة جديدة بأسعار السلع والمواد الغذائية الأساسية. جولة على الأسواق، ولا سيما على الدكاكين الصغيرة التي تبيع بـ "المفرّق"، تُظهر صحّة الشكوى. والمشكلة لا تقتصر على ارتفاع الأسعار بنسبة تراوح بين 10 و20 في المئة عما كانت عليه في مطلع أيلول، إنّما تشمل الفروق الكبيرة بين محلّ صغير وآخر، وبين هذه المحال والسوبرماركت التي لم تغيّر أسعارها.

لا ارتفاع في الأرقام الرسمية

نظرياً، لم تشهد أسعار أكثرية السلع والمواد الغذائية ارتفاعاً يذكر إلى السابع من الشهر الجاري. وباستثناء الفواكه التي ارتفعت أسعارها 14 في المئة على مستوى أسبوعي، فإنّ أسعار العديد من أصناف الخضر والفروج والسكر والحلاوة قد تراجعت بنسب ملحوظة. ومما يتبيّن من التقرير الأسبوعي لأسعار السلّة الغذائية في وزارة الاقتصاد (المكتب الفني لسياسة الأسعار) في نقاط البيع في مختلف المناطق اللبنانية، في 7 تشرين الأول مقارنة بمطلع الشهر، أنّ أسعار الخضر الطازجة ارتفعت 0.2 في المئة، واللحوم ومشتقّاتها 1.2 في المئة، والبيض ومنتجات الحليب 0.3 في المئة، والحبوب والبذور والثمار الجوزية 0.3 في المئة، والمنتجات الدهنية والزيتية 0.2 في المئة، والمعلّبات 0.6 في المئة، والمواد الغذائية المتفرّقة 0.8 في المئة.

علماً أنّ الارتفاع بنسبة تصل إلى 0.5 في المئة لا يمكن ملاحظته على السلع والمنتجات. وهو ما ينعكس "استقراراً عامّاً في الأسعار، وتحديداً في نقاط البيع الكبيرة"، بحسب الدكتور نبيل فهد نقيب أصحاب السوبرماركت، ونائب رئيس غرفة بيروت وجبل لبنان للتجارة والصناعة والزارعة. "وخلافاً لما يعتقده البعض، فإنّ المتاجر لا تغيّر أسعارها إذا لم يكن هناك تغيير من قِبل المورّدين. وبما أنّ أسعار المورّدين مستقرّه فالأسعار لا تزال على ما كانت عليه". ويؤكّد فهد أن الأسعار في السوق المفتوحة كثيراً ما تشهد ارتفاعاً وانخفاضاً للكثير من الأسباب المحلية والعالمية، ويشدّد على "عدم وجود ارتفاع عام في أسعار المواد الغذائية مثلما يتصوّر البعض، وهذا ما تظهره الإحصاءات الرسمية".

الخطر الوحيد الذي سيؤثر سلباً في الأسعار يتمثّل في تراجع المعروض

تسهيل إخراج البضائع

الخطر الوحيد الذي سيؤثر سلباً في الأسعار يتمثّل في تراجع المعروض، وهو ما تسعى غرفة التجارة، بالتنسيق مع الجمارك ومرفأ بيروت، إلى منع حدوثه. وقد اتّفق الأطراف الثلاثة على تسهيل إخراج البضائع المستوردة بطريقة منتظمة ومتواصلة من شركات عالمية معروفة، من دون فحوص مخبرية. ذلك أنّ "الفحوص، على أهمّيتها، تتطلّب وقتاً طويلاً. وكثيراً ما تثبت صحّة هذه المنتجات التي يخضع انتاجها لأعلى معايير الجودة العالمية"، بحسب فهد. "بالإضافة إلى استمرار العمل في تسريع الإجراءات البيروقراطية المتصلة بالأوراق والمستندات، خاصة من ناحية وزارة الزراعة التي سبق أن أصدرت قرارات قضت بالتشدّد في مراقبة البضائع المستوردة, مثل المعلبات الحيوانية من مصادر محدّدة".

التبغ يرتفع أيضاً

اللافت أن الارتفاع في الأسعار في محال المفرّق شمل أيضاً منتجات الدخان والتنباك، التي شهدت قفزات كبيرة في الأسابيع الأخيرة. "جزء من هذا الارتفاع رسمي ويعود إلى زيادة أسعار كلّ الأصناف بمعدّل 10 آلاف ليرة على العلبة الواحدة، تمثّل زيادة بنسبة 15 في المئة متوسطاً عاماً"، بحسب مدير التوزيع التجاري في إدارة حصر التبغ والتباك "الريجي"، جورج حبيقة. في حين أنّ الجزء الآخر الذي يمثل زيادة نحو 10 آلاف ليرة أخرى، غير رسمي، وهو ناتج من نقص المعروض في السوق، وارتفاع تكلفة النقل، وتضرّر مستودعات رئيسة لرئاسات بيع بالجملة، ولا سيما في ضاحية بيروت الجنوبية وجنوب لبنان والبقاع الشرقي وغيرها من المناطق التي تتعرض للقصف المتواصل. وبحسب حبيقة، فإنّ "انتاج مصانع الدخان اللبنانية الواقعة في الحدث قرب الضاحية الجنوبية لبيروت٫ والتي تنتج معظم أصناف الدخان، تراجع بنسبة 50 في المئة منذ 23 أيلول المنصرم، بدء توسّع الاعتداءات. وهو ما قلّل المعروض في السوق ودفع إلى زيادة الطلب على العرض، وعودة التجار إلى احتساب عمولتهم، الأمر الذي تسبب في ارتفاع في الأسعار". فـ"رئاسات البيع" البالغ عددها قرابة 800 رئاسة أو مؤسسة، كانت تحجم في الفترة السابقة عن احتساب العمولة الشرعية الخاصة بها، والتي تصل مثلاً إلى 10 دولارات على صندوق الدخان، لأغراض ذات علاقة بالمنافسة في ما بينها، وتوسعة أسواقها وزيادة مبيعاتها.

أمّا اليوم فقد عادت الرئاسات، مع تراجع العرض، إلى زيادة حصتها من العمولة. "وهي إن لم ترفعها 100 في المئة، ترفعها أقلّه 80 في المئة"، يضيف حبيقة. وهذا ما انعكس ارتفاعاً في أسعار الدخان. وصحيح أنّ الانتاج ارتفع مجدّداً منذ منتصف الشهر الجاري إلى نحو 75 في المئة، إلّا أنّه يبقى أقلّ مما كان عليه سابقاً. ومن المفترض أن تعود الأسعار إلى الانخفاض تدريجياً بالتوازي مع زيادة العرض".

لا شك أنّ الرفع الاعتباطي للأسعار في الاقتصاديات الحرّة يرتد خسارة على التاجر. فالمستهلك كثيراً ما يبحث عن السلعة الأرخص. فتفقدُ المتاجر ذات الأسعار المرتفعة زبائنها لمصلحة تلك التي تبيع بأسعار أدنى. إلّا أنّ قاعدة السوق الذهبية هذه، لا تتحقق في لبنان. فالمواطنون في أيام الحرب يفضّلون الشراء من الدكاكين القريبة، بدلاً من تكبّد مشقّة الانتقال للتبضع من المتاجر الكبيرة المحدودة الوجود نسبياً، وإنْ دفعوا مبالغ مالية إضافية. فالتضحية بالمال عوض الروح في هذه الأحوال تزيد من الاستغلال وترفع أرباح التجار على حساب المصلحتين الشخصية والعامة.