مُحّيرة هي "الحالة اللبنانية". وهشّةٌ حتى إن حَملت أيّة بقعة في أقاصي الأرض بالمشكلات تلد، ههنا، في بيروت. لكنّها أسرع من طائر الفينيق في التجدّد، وإنْ رمّدها الحريق. "نمنا على حرب عشية 20 أيار 2008، واستيقظنا على اتفاق حمل أكثر الأعوام انتعاشاً للاقتصاد"، جملة قالها لنا نقيب أصحاب مكاتب السياحة والسفر جان عبود في تقرير على "قناة المستقبل" آنذاك، ولا أزال أكرّرها لما تحمل من معانٍ تدلّ على سرعة الشفاء، أقلّه من الناحية الاقتصادية.

في أحدث تقاريره، توقّع "البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية" (EBRD) إمكان عودة لبنان إلى النمو سريعاً في العام 2025، ولو بنسب متواضعة، متوقّعاً خروج الاقتصاد اللبناني من الانكماش، ونمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2 في المئة، وهي، للمناسبة، النسبة الأعلى التي قد يحقّقها الاقتصاد منذ بدء الانهيار في العام 2019. لكنّ هذا النمو المحتمل مشروط، وفق التقرير، بانتهاء الحرب، وانحسار التوترات الإقليمية، وإحراز تقدّم ملموس في الإصلاحات الجوهرية. ولا سيما تلك المتعلّقة بتطبيق الشروط المبدئية التي تعهّدها لبنان بالاتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي في العام 2022.

توقّعات "متشائلة"

أما في ما يتعلّق بالعام الجاري، فاتت توقعات (EBRD) إيجابية أيضاً، ولو أنّ "قطار" النمو سيفوت الاقتصاد. إذ سينكمش الناتج، بحسب التقرير، بنسبة 1 في المئة فقط مقابل ذهاب تقارير اقتصادية أخرى، تناولناها في مقال سابق، أبعد من ذلك بتوقّعها انكماشاً في الناتج بين 15 و25 في المئة، استناداً إلى مؤشر الثقة، وغيره من معطيات. وتعود التوقعات "المتشائلة" للبنك الأوروبي إلى بضعة معطيات، أهمها:

- انخفاض التضخم، الذي ارتفع إلى ذروته عند 352 في المئة في آب 2023، إلى 35.4 في المئة في تموز 2024.

- تحقيق استقرار في مالية الدولة نتيجة اعتماد قانون الموازنة للعام 2024، على سعر صرف قريب من سعر السوق.

وعلى الرّغم من هذه المؤشرات الإيجابية، فإنّ الاقتصاد "لا يزال ضعيفاً"، بحسب التقرير، و"لا تزال البطالة مرتفعة، مع وجود أكثر من ثلث القوى العاملة من دون عمل، وهذا ما يسلّط الضوء على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية المزرية".

مؤشر مديري المشتريات في أدنى مستوياته

على أنّ التوقّعات بحتمية انكماش الاقتصاد في العام الجاري، عزّزها "انخفاض مؤشر مديري المشتريات في لبنان إلى أدنى مستوى له في 33 شهراً، في أيلول، مع ازدياد المخاوف الأمنية"، بحسب مؤشر (BLOM Lebanon PMI) الذي يصدره بنك لبنان والمهجر. إذ انخفض المؤشّر إلى 47.0 من 47.9 في آب 2024. ويمثّل هذا الشهر الثاني من الانخفاض على التوالي. مع العلم أنّ هذا المؤشر كان قد اقترب من 50 نقطة في كانون الثاني مطلع العام الجاري، مكوّناً واحداً من أهمّ المؤشرات التي يعتمد عليها لقياس النشاط في الاقتصاد وتحسن الانتاج بناء على 5 عوامل أساسية هي: العمالة، الأسعار، الطلبات الجديدة، التسليمات، المخزونات. ويشير الرقم فوق 50.0 إلى تحسن وضع الاقتصاد، في حين يشير الرقم تحت 50.0 إلى تباطؤ الأعمال. وكلّما انخفض الرقم عن الخمسين كان الوضع سيئاً، والعكس صحيح. وبحسب (BLOM PMI) انخفض الإنتاج إلى أدنى مستوى له منذ تشرين الأول 2021، في حين انخفضت الطلبات الجديدة بالسرعة القصوى منذ كانون الثاني 2022. بالإضافة إلى ذلك، تشهد طلبات التصدير الجديدة أشدّ انخفاض منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة. إذ يتجنّب العملاء الدوليون التعامل مع المناطق المتضررة من الصراعات العسكرية بسبب ارتفاع تكاليف الشحن. وبحسب التقرير، فإنّ "تراجع مؤشّر مديري المشتريات يعكس واقعاً مقلقاً للاقتصاد اللبناني، إذ تظلّ التوقّعات سلبية نتيجة تصاعد توتّرات الحرب، وفي ظلّ عدم توقعّ القطاع الخاص حلاًّ سريعاً للصراع. ويذكر التقرير "حتّى بعد انتهاء الصراع، سيستغرق الاقتصاد وقتاً طويلاً كي يتعافى، لأنّ العديد من القطاعات تضرّرت تضرراً كبيراً. وستحتاج السياحة إلى بعض الوقت للتعافي مع بقاء المخاوف الأمنية. في حين عانت البنية التحتية أضراراً جسيمة تتطلّب إعادة بناء واسعة النطاق. كذلك تأثّرت الزراعة، وخاصة بسبب استخدام الفوسفور الأبيض. وعلاوة على ذلك، فإنّ النزوح الجماعي يخلّف العديد من التحديات المعقّدة التي تبطئ جهود التعافي. وفي حين أنّ الاقتصاد قد لا يكون الشغل الشاغل للبلاد في الوقت الحالي، فإنّه سيصبح حتماً كذلك في المستقبل".

المشكلة الكبرى التي ستواجه الاقتصاد تتمثّل في التكلفة العالية لإعادة الإعمار في المناطق المتضررة...

الأضرار بالأرقام

مقدار الأضرار التي ستلحق بالاقتصاد ستظهر لاحقاً، وسيكون الشفاء منها أصعب كلّما طال أمد الحرب. ويوضح تقرير حديث لـ (Reach Reporting) المعنية بـ "أتمتة التقارير المالية والتخطيط" كيف أثّر التصعيد الحالي في الصراع على مختلف الأُسر والمناطق في لبنان، وخاصّة بعد سنوات من الأزمات المتراكمة، متوقّعاً أن "يكون للتصعيد الأخير في الصراع تداعيات واسعة النطاق وطويلة الأمد على اقتصاد لبنان ووصول سكانه إلى سبل العيش التي أصبحت هشّة بالفعل". وتُظهر البيانات المتوفرة مقدار الأضرار في الفترة الممتدة من مطلع الحرب في 8 تشرين الأول 2023 إلى نهاية أيلول 2024:

- تضرّرت 25 محطة مياه، فأثّر ذلك سلباً في الوصول إلى المياه الصالحة للشرب لنحو 360 ألف شخص.

- أغلق 37 مركزاً صحياً.

- تسجيل أضرار وتدمير للبنية التحتية للكهرباء والطرق العامة والمصانع والأراضي الزراعية.

- تهديد متواصل للأمن الغذائي. خصوصاً أنّ لبنان يعتمد بنسبة 80 في المئة من حاجاته الغذائية على الاستيراد.

- ارتفاع المخاطر المتصلة بإيصال المواد الغذائية والحاجات إلى المناطق المستهدفة.

- تضرّر نحو 20600 مبنى سكني تضرراً كبيراً.

- دمار 4200 مبنى كلياً أو جزئياً.

- تضرّر الأراضي الزراعية وتدهورها، وخاصة في جنوب لبنان حيث تقع 22 في المئة من الأراضي الزراعية على المستوى الوطني. وقد تفاقمت هذه الخسائر بسبب الحرائق الناجمة عن القصف والتلوث نتيجة استخدام الفوسفور الأبيض.

- تسجيل خسائر فورية في الإنتاج.

- الخشية من أن يؤدّي الطلب المتزايد على السلع والخدمات في المجتمعات المضيفة إلى ارتفاع الأسعار، وهذا ما يزيد من فجوة الدخل والإنفاق.

- هجرة العمالة الماهرة، وهو ما كان سائداً منذ بداية الأزمة المالية. وأثّر سلباً في قطاعات محدّدة من الاقتصاد، ومنها التعليم والرعاية الصحية.

المشكلة الكبرى التي ستواجه الاقتصاد تتمثّل في التكلفة العالية لإعادة الإعمار في المناطق المتضررة. وهو ما "سيشكّل تحدياً كبيراً"، بحسب (Reach Reporting) بسبب التغيرات في المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، حيث من غير المتوقع أن يتلقّى لبنان المقدار نفسه من الدعم المالي الذي شهده عقب حربه مع إسرائيل في العام 2006.

النقاط//

البنك الأوروبي لإعادة التعمير يتوقّع نمو 2% في العام 2025.

مؤشر مديري المشتريات في أدنى مستوى له منذ ثلاث سنوات.

الأضرار تتعمّق كلّما طالت الحرب وشكوك في تمويل إعادة الإعمار.