كأنّ الاتصالات الدبلوماسية الجارية علناً وبعيداً من الأضواء نجحت إلى حدّ ما في خفض التصعيد الذي تسعى إليه إيران، لتجنيب المنطقة الانزلاق إلى حرب شاملة قد يتسبّب بها الردّ الإسرائيلي المنتظر على الهجوم الإيراني الانتقامي الأخير. وهي حرب تقول إيران إنّها لا تريدها، ولكن حجم حراكها الإقليمي والدولي بمقدار ما يدلّ إلى إراداتهما هذه، بمقدار ما يبعث على التخوّف من احتمال نشوب هذه الحرب. 

ولكن هذا الخفض في التصعيد، يقول ديبلوماسيون متابعون، وإن كان يبعث على الاعتقاد باحتمال التوصّل إلى تسويات ما، فلا يعني أنّ الإسرائيلي لن يردّ على الإيراني، وإنّما قد يحدّ من حجم الردّ إلى الحدود التي يمكن إيران أن تستوعبه، خصوصاً إذا لم يشمل منشآتها النووية والاستراتيجية الحسّاسة، أمّا إذا جاء على عكس ذلك فيمكن عندئذ أن يستجلب ردّاً إيرانياً أقسى وأكبر من الهجوم الأخير، الذي كان انتقاماً لاغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" اسماعيل هنية، فإذ ذاك ستدخل المنطقة في حرب شاملة من المؤكّد أنّ الولايات المتحدة الأميركية ستتدخل فيها دفاعاً عن إسرائيل. 

ويضيف هؤلاء الديبلوماسيون: "صحيح أنّ القصف الإسرائيلي تراجع قليلاً في لبنان، وخصوصاً على الضاحية الجنوبية لبيروت، لكنّ ذلك لم يغيّر في الخطط العسكرية الإسرائيلية الهادفة إلى القضاء على حزب الله وتفكيك بنيته العسكرية، من خلال الإغارة على أماكن تدّعي إسرائيل أنّها مواقع عسكرية ومخازن أسلحة، وكذلك على بنيته الشعبية الحاضنة عبر الإغارة على المدن والبلدات والقرى الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية والبقاع وحتى على قرى وبلدات شيعية في منطقة جبل لبنان وبعض اقضية منطقة الشمال، فضلاً عن استهداف أماكن في بعض أحياء بيروت لاغتيال مسؤولين في الحزب تزعم تل ابيب أنّهم يقيمون فيها من مثل الغارة الأخيرة على محلّتي "البسطة" و"النويري". 

وترى أوساط مشاركة معنية في الاتصالات أنّ الولايات المتحدة الأميركية تفصل بين ملف الحرب الإسرائيلية على حزب الله وملف الرد الإسرائيلي على إيران، بحيث أنّها تحاول فرض حلّ لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، أساسه تقويض الحزب وفرض حلّ سياسي عبر انتخاب رئيس الجمهورية تكون لها اليد الطولى فيه، بالتزامن مع الحديث عن تنفيذ القرار 1701 في الجنوب، وهذا ما يفسّر "الاستفاقة" الخارجية المفاجئة بعد "نوم عميق" على وجوب الإسراع في إنجاز الاستحقاق الرئاسي. وتقول هذه الأوساط إنّ واشنطن تدفع في اتجاه حلّ يقوم على تعديل القرار 1701 من دون الذهاب إلى تنفيذ بقية القرارت المرتبطة به أو التي رُبِطت به وفي مقدّمها القرار 1559 الذي يشكّل الأسلوب الديبلوماسي البديل من الحرب، لإنهاء القوّة العسكرية للحزب في حال الفشل في الميدان. 

طبعاً، تقول المصادر نفسها، إنّ المسألة ليست بالسهولة التي تعتقد بها إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤهما، لأنّ ما يجري في الميدان، وحتّى في الديبلوماسية، يشي بعكس ذلك، فلا المفاوض الرسمي اللبناني تزحزح عن ثوابته، ولا حزب الله. والنتيجة الإسرائيلية حتّى الآن اغتيالات لقيادات وتدمير للأبنية والممتلكات وصفر تقدم عسكري أو ديبلوماسي. في الوقت الذي بدا أنّ "الحزب" استعاد زمام المبادرة في الميدان، بدليل أنّه نفّذ 38 هجوماً في يوم واحد، أمس، على الجيش الإسرائيلي، على الحدود الجنوبية وفي عمق المنطقة الشمالية من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولذلك انبرى نتنياهو إلى الطلب من الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس سحب قوات "اليونيفيل" من الجنوب اللبناني، بذريعة أنّها ستتحول "رهائن" بيد حزب الله، فيما هو في الحقيقة يريد احتلال المناطق الحدودية التي تنتشر فيها لفشل جيشه في اجتياحها نتيجة شراسة المقاومة التي تواجهه. 

تقديرات الإيرانيين، حسب المصادر الديبلوماسية، أنّ الأميركي وفي ضوء المفاوضات غير المباشرة الجارية بينه وبينهم حالياً، ربما يكون قد أقنع الإسرائيلي بعدم دفع الأوضاع نحو حرب شاملة لا تريدها واشنطن، على ما تعلن، خصوصاً في ظلّ انشغالها في انتخابات الرئاسة المقرّرة في الخامس من تشرين الثاني المقبل. بحيث يأتي ردّه على إيران محدوداً لا يشمل منشآت نووية وحساسة حتى لا يتلقّى ردّاً إيرانياً كبيراً. إلّا أنّ حصول هذا الإقناع من عدمه سيتظهّر في قابل الأيام، خصوصاً أنّ الإسرائيلي غير مأمون الجانب عادة، وهو الطامح تاريخياً وتقليدياً إلى تدمير تلك المنشآت، ويتصرف حالياً بنشوة "المنتصر" وأنّ "فرعون تفرعن وما حدا بيصدّه" إلى درجة أنّه اعتدى على الشرعية الدولية والمتمثلة بقوات "اليونيفيل"، ويطلب من الأمم المتحدة سحبها من الجنوب اللبناني، لكي لا تكون شاهداً على ضربه عرض الحائط بهذه الشرعية، وعلى جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يرتكبها. 
ولكن إن صحّ أنّ الأميركي أقنع إسرائيل بردّ "محدود ومضبوط" على إيران لا يستجلب رداً كبيراً منها، ولا تنشب حرب شاملة، فإنّه في المقابل أبقى يدها طليقة في حربها على حزب الله، لأنّ واشنطن لا يضيرها تقويضه وهو المصنّف لديها "تنظيماً إرهابياً"، وأنّه يهدّد أمن إسرائيل، التي يشكّل لها مصدر قلق دائم لما يمتلكه من قدرات عسكرية ومن نفوذ سياسي وتجذر شعبي، ولطالما رأت في قدراته في كلّ المجالات "خطراً وجودياً" إلى جانب بقية حركات المقاومة الفلسطينية والعربية. 

ولكنّ المراقبين يستدلّون على حذر إلى "نجاح" المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران واحتمال أن يأتي الرد الإسرائيلي محدوداً من خلال الآتي: 
ـ قول متحدث باسم الاستخبارات الأميركية عبر وكالة "رويترز" أن "تقديراتنا أنّ المرشد الإيراني لم يقرّر استئناف برنامج السلاح النووي". كذلك نقلت الوكالة عن مسؤولين أميركيين أنّ "واشنطن تعتقد أنّ إيران لم تقرّر تصنيع أسلحة نووية على رغم نكساتها الاستراتيجية الأخيرة". 

ـ تحذير وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف المفاجىء من "أنّ إسرائيل إذا استهدفت المنشآت النووية الإيرانية فسيكون ذلك استفزازاً خطيراً جداً"، لافتاً الى أنّ "الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتابع عن كثب أنشطة إيران النووية ولا ترى أيّ دليل على عسكرتها". 

ـ نقل شبكة "إن بي سي" الأميركيّة عن مسؤولين أميركيّين، إشارتهم إلى أنّ "إسرائيل ضيّقت خياراتها للرّدّ على إيران بضرب أهداف عسكرية ومنشآت للطّاقة"، مؤكّدين أنّ "لا مؤشّرات على أنّ إسرائيل ستستهدف منشآت نوويّة إيرانيّة، أو تقوم بعمليّات اغتيال". 

ـ نقل وكالة "بلومبرغ" عن مصادر، أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن "حذر نتنياهو من ضرب منشآت نفطية ومواقع نووية إيرانية وضَغَط لاقتصار الرد على أهداف عسكرية، واقترح فرض عقوبات اقتصادية جديدة على ايران". 

ـ نقل شبكة "سي ان ان" عن مصدر في طهران مطلع على المناقشات الديبلوماسية أنّ "إيران أبلغت إلى الولايات المتحدة وبعض الدول في الشرق الأوسط بأنّها ستردّ على أيّ هجوم جديد من جانب إسرائيل، وذلك على عكس بعض الأخبار الكاذبة". 

ـ قول مصادر إن "الحكومة الإيرانية انخرطت في جهود دبلوماسية عاجلة مع دول في الشرق الأوسط لقياس ما إذا كان في إمكانها تقليص نطاق الرد الإسرائيلي وإذا فشل ذلك، أن تساعد في حماية طهران". 

ـ قول مسؤول إسرائيلي لشبكة CNN إنّ "مجلس الوزراء الأمني ​​الإسرائيلي لم يتوصّل بعد إلى قرار في شأن كيفية المضي قدماً، في ما يتعلق بالردّ على الهجوم الصاروخي الباليستي الإيراني". 

ـ مبادرة واشنطن في ما يبدو أنّه "تطمين" لإسرائيل إلى مركزة بطارية دفاع جوي أميركية من طراز "ثاد" للمرة الأولى في إسرائيل وسيشغّلها أميركيون لاعتراض الصواريخ الباليستية داخل إسرائيل. 

قابل الأيام سيكشف نتائج المساعي المحلية والإقليمية الجارية التي قد تنتج هدنة ما تسبق "اليوم الأميركي الكبير" في 5 تشرين الثاني المقبل



يوم "حالي" لا "تالي" 

وفي العودة إلى المقلب اللبناني من الصورة يبدو أن ليس لدى واشنطن "يوم تالي" للبنان بعد الحرب بل "يوم حالي" قبل أن تنتهي، أو يراد لهذا "اليوم" أن يكون المعبر إلى نهايتها بحيث تُقطف الثمار مبكراً، وأولاها انتخاب رئيس جديد يملأ الفراغ الرئاسي الذي سيبلغ عمره سنتين بالتمام والكمال في 31 تشرين الأول الجاري. 

وقد كان لافتاً في هذه المجال قول الموفد الرئاسي الأميركي إلى لبنان آموس هوكستين في حديث متلفز إنّ "الولايات المتّحدة لم تعطِ أيّ ضوء أخضر لأيّ عمليّة برّيّة في لبنان". مؤكّداً "أنّنا نعمل ليلاً ونهاراً من أجل مسألة وقف إطلاق النّار في لبنان، والوصول إليه في أسرع وقت"، مشيراً إلى أنّ "التّنسيق مستمرّ مع الحكومة اللبنانية ورئيسها وقائد الجيش، والأمر يتعلّق بمستقبل لبنان من أجل الوصول إلى ما يريده الشعب اللبناني، عبر انتخاب رئيس وتشكيل حكومة". معتبراً أنّه "في هذه الظّروف يجب أن يتمّ الاستحقاق الرّئاسي سريعاً". 

ولكن هذا الموقف وجد فيه بعض السياسيين اللبنانيين الذين اتصل بهم هوكستين أو اتصلوا به، مجانباً للواقع، لأنّ ما يجري على الأرض هو تعرّض لبنان لاجتياحين جوي وبري، الجوي يتقدم في التدمير مستنسخاً غزة، والبري يفشل في التقدم. وأنّ التصرّف الإسرائيلي يدلّ إلى أمرين، إمّا أنّه لا ينتظر موافقة اميركية، وإمّا أنّه حصل على هذه الموافقة ولكنه ينفذها "بالتقسيط" بين بر وجو وبحر، وأنّ تجنّبه قصف مطار بيروت وبقية المرافق العامة والبنى التحتية إنّما هو لإظهار أنّ معركته هي ضد حزب الله، وبالتالي لتأليب الرأي العام اللبناني ضدّه وتسفيه الحرب التي يشنّها إسناداً لغزة، فيما الحقيقة هي في مكان آخر تتصل بـ"أمن إسرائيل" سابقاً وراهناً ولاحقاً ومشروعها التوسعي. 

واللافت أن كلام هوكستين جاء بعد قليل من إعلان وزارة الخارجية الأميركية عن اتصالين أجراهما وزير الخارجية انتوني بلينكن بكلّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، مشدّداً على "التزام الولايات المتّحدة التّوصّل إلى حلّ دبلوماسي دائم للنزاع عبر الخط الأزرق، ينفّذ قرار مجلس الأمن التّابع للأمم المتحدة الرقم 1701". كذلك تشديده على "الدّور الرّئيسي الّذي ستلعبه مؤسّسات الدّولة في مرحلة ما بعد النزاع، والحاجة لملء المنصب الرّئاسي الشّاغر من خلال وسائل ديموقراطيّة تعكس إرادة الشّعب اللّبناني، من أجل لبنان مستقر ومزدهر ومستقل"، وتشديّده أيضاً على "أنّ لبنان لا يمكن أن يسمح لإيران أو "حزب الله" بالوقوف في طريق أمن لبنان واستقراره".

في أيّ حال، وبعد أن فوّض حزب الله إلى رئيس مجلس النواب أمر التفاوض في شأن وقف إطلاق النار والحلول المطلوبة، فإنّ قابل الأيام سيكشف نتائج المساعي المحلية والإقليمية الجارية التي قد تنتج هدنة ما تسبق "اليوم الأميركي الكبير" في 5 تشرين الثاني المقبل، وقد دخل على خطّ المساعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مباشرة من خلال اتصالين أو أكثر مع بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، مؤكّداً أنّه "يجب التوصل فوراً إلى وقف لإطلاق النار في لبنان"، وداعياً جميع الأطراف إلى "أن يواجهوا معاً هذه المحنة الجديدة عبر تأييد برنامج سياسي جامع يستند إلى انتخاب رئيس يضمن الوحدة الوطنية".