أن يقول الكسندر دوغين المستشار الأيدولوجي والإستراتيجي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنّ اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله هو اغتيال للمقاومة في الشرق الأوسط، فذلك يدلّ إلى الحرب الخطيرة التي تعيشها المنطقة، ويتوقّع أن تتوالى فصولاً على رغم حديث بعض السياسيين السذج عن الانشغالات العالمية بحرب أوكرانيا والانشغال الأميركي بالانتخابات الرئاسية المقررة في الخامس من تشرين الثاني المقبل.

ذلك أنّ تطوّر الأحداث وتوسع الحرب الإسرائيلية في غزة إلى لبنان، والجبهات المفتوحة الأخرى من العراق إلى إيران واليمن، يؤكّدان أنّ لا شيء يشغل الولايات المتحدة الأميركية والغرب عن المشاركة في هذه الحرب مباشرة، ومن خلال الدعم السخي المستمرّ مادّياً وعسكرياً لإسرائيل، وليس هناك من فرق إن فازت كملا هاريس أو منافسها دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، فكلاهما يؤيّد الحرب ويريد لها أن تنتهي وفق ما تشتهي إسرائيل قبل الوصول إلى البيت الأبيض، وإن كانت لكلّ منهما نظرته الخاصة إلى مستقبل القضية الفلسطينية خصوصاً، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً.

وعندما يقول دوغين إنّ اغتيال نصرالله هو اغتيال للمقاومة في الشرق الأوسط، فإنّما يعني بالدرجة الأولى اغتيال إيران التي تشكّل رأس حربة هذه المقاومة، بل المؤسسة والراعية لها منذ انتصار ثورتها عام 1979 على نظام الشاه محمد رضا بهلوي الذي كان الشرطي الأميركي الأول في المنطقة قبل أن تحتلّ إسرائيل مكانه بعد إطاحته.

وطبيعي أن تدرك إيران أنّ اغتيال نصرالله هو رسالة موجهة إليها بالدرجة الأولى، وليس المقاومة بكل فصائلها في ذاتها فقط، فيما يبدو أنّ إسرائيل عندما لجأت إلى اعتماد أسلوب الاغتيالات وقتلت "أركان حرب" السيد نصرالله قبل أن تغتاله، ثم تواصل هذه الاغتيالات باقتفاء أثر قادة حزب الله السياسيين والعسكريين، إنّما أرادت أن توازي بين حربها في الميدان لقتل قادة المقاومة ومقاتليها الذين يقارعونها ويصدّونها ويستنزفونها، وهو ما يحصل يومياً في غزة المدمّرة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي تحلّ ذكراها الأولى اليوم، وكذلك في "حرب الإسناد" لغزة التي شنّها حزب الله ضدها والتي تحل ذكراها الأولى هي الأخرى غداً.

وإذا ظنّت إسرائيل أنّ اغتيالها لقائد محور المقاومة السيد نصرالله تمهيداً لاجتياحها البري للبنان، فوجئت على ما يبدو بأنّ الأمر ليس بالسهل عليها، بدليل أنّ المواجهة الكبرى التي يخوضها مقاتلو حزب الله بشراسة منعتها حتى الآن من عبور الحدود الجنوبية إلى لبنان. وكبّدتها عشرات القتلى والجرحى والخسائر في الآليات والعتاد. وقد اكتشفت إسرائيل أنّ اغتيال نصرالله لم يفتّ في عضض رجاله في الميدان، بل جعلهم أكثر شراسة في القتال لينالوا باعتقادهم الديني والإيماني "الشهادة في سبيل الله". ولذا فإنّ الحرب التي تخوضها إسرائيل ليست من نوع الحروب التي تخاض مع الجيوش النظامية، وإنّما مع جيش عقائدي رجاله لا يهابون الموت بل يتمنّونه، خصوصاً أنّ استشهاد قائد هذا الجيش هو نفسه كان يتمنّى الشهادة وتنبّأ بها يوم كان يؤبّن القائد العسكري للحزب فؤاد شكر عندما ختم خطابه بالقول له "إلى اللقاء في الشهادة قريباً".

ولذلك، يقول بعض مواكبي الحرب إنّه يخطئ من يظنّ أنّ إسرائيل التي توقّعت أن تنهي حربها على لبنان "بانتصار" خلال ثلاثة أسابيع، سيكون لها مرادها. فعلى رغم حرب الإبادة، بل حرب الاجتثاث التي تشنّها على حزب الله وقياداته وكوادره العسكرية والسياسية في كلّ المناطق الجنوبية واللبنانية، لم تتمكّن حتى اليوم من الدخول البري إلى لبنان، فالحرب الآن ليست كحرب تموز 2006، و"روما تلك الأيام ليست كروما اليوم"، والبيئة الحاضنة لحزب الله التي أرادت إسرائيل تفكيكها لم تتغير أو تتبدل، بل إنّما ازدادت إصراراً على احتضانه، ولم يصدر عنها أيّ صوت يعارض أو يشكو.

على أنّ هذه الحرب، يقول المتابعون، لا تستهدف الحزب وحده وإنّما الطائفة الشيعية برمّتها إذ إنّ القصف، بل الاجتياح الجوي الإسرائيلي للبنان، هو اجتياح سياسي وعسكري، لا يستهدف إلّا المناطق الشيعية في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع، وأحياناً يستهدف قادة للحزب في مناطق أخرى بغية تأليب سكانها على الحزب.

وتقول بعض الأوساط المعنية: "لم يعد لدينا شيء نأسف عليه بعد اغتيال السيد نصرالله، فلتقصف إسرائيل ما تريد وتقتل من تريد ولكنّها لن تنال منّا إلّا المقاومة والثبات. ولتبيدنا علّ العالم يراها هذه المرة على حقيقتها ككيان عنصري قام على القتل ولا يعيش إلّا باستمراره في قتل غيره من شعوب الأرض". وترى هذه الأوساط أنّ إسرائيل باستهدافها الشيعة إنّما تريد تفجير لبنان، فهي تريد لهم أن يكونوا "الثور الأسود" الذي تريد افتراسه ابتداءً لتنبري بعده إلى افتراس "الثور الأبيض" وهو بقية اللبنانيين، لتدمّر لبنان الذي لطالما شكّل النموذج النقيض لكيانها العنصري الذي تحاول أن تبني له الآن إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، إن لم تتوسّع إلى أبعد من ذلك إذا تسنّى لها، فهي دولة لا دستور لها ولا حدود منذ نشوء كيانها عام 1948.

ولذلك لم يكن مصادفة إشهار وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي خلال زيارته السريعة للبنان موقف بلاده الذي أكّد وقوفها إلى جانب الطائفة الشيعية خصوصاً، والشعب اللبناني عموماً، وهذا الموقف عبّر عن إدراك القيادة الإيرانية لحقيقة الحرب التي تشنّها إسرائيل على لبنان هذه الأيام.

رسائل في كل الاتجاهات

ويقول مصدر ديبلوماسي إنّ زيارة عرقجي للبنان انطوت على جملة من المعاني والرسائل السياسية في مختلف الاتجاهات:

ـ أولاً، تأكيد إضافي أنّ إيران، وخلافاً لكلّ ما يشاع، لم تتخلّ عن حلفائها على رغم كلّ الظروف وضخامة الأحداث الخطيرة التي بلغت ذروتها باغتيال إسرائيل للسيد نصرالله، وكذلك التأكيد أنّ إيران كانت ولا تزال حاضرة في الساحة إلى جانب حلفائها في لبنان والمنطقة.

ـ ثانياً، إنّ وصول عرقجي إلى لبنان عبر مطار بيروت الدولي متحدّياً الحظر الإسرائيلي هو رسالة تحدّ لإسرائيل وللتأكيد أنّ إيران لا تزال حاضرة في الساحة إلى جانب حلفائها في لبنان والمنطقة.

ـ ثالثاً، كان واضحاً من خلال تأكيد عرقجي أنّ إيران ستبقى إلى جانب الشيعة خصوصاً، والشعب اللبناني عموماً، مدركة أنّ خريطة الاستهدافات الإسرائيلية تشمل الطائفة الشيعية بالدرجة الأولى، فجاءت لتؤكّد وقوفها إلى جانب هذه الطائفة ولبنان، وهذا موقف معبّر ودقيق يوجّه رسائل كثيرة في كلّ الاتجاهات.

ـ رابعاً، تتعلّق الزيارة بموضوع وقف إطلاق النار إذ من الواضح أنّ هناك أفكاراً مطروحة في هذا الصدد، وهذه الأفكار تحدث عنها رئيس مجلس النواب نبيه بري وسمّيت "ورقة البنود العشرة" التي وافقت عليها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية والعربية وإسرائيل، وكانت هناك فرصة لإقرارها في مجلس الأمن الدولي، ولكنّ إسرائيل تراجعت عن موافقتها. وقد أكد عرقجي في هذا الصدد أنّ إيران تدعم أيّ صيغة لوقف إطلاق النار تلقى رضا حزب الله وتضمن حقوق الشعب اللبناني، وأن طهران ليس لديها أيّ مطالب أو شروط، وأنّها ترفض أيّ إمكانية لإقرار صيغ لا تحفظ حقوق اللبنانيين، وأي وقف للنار في حال وجود أطراف ومدن وبلدات في الجنوب محتلّة.

ـ خامساً، أكّد عرقجي أنّ إيران لن تتخلّى عن لبنان وهي ليست طرفاً متفرجاً على ما يحصل، بل هي في صلب المعركة وليست وسيطاً ومراقباً. وبالتالي، فإنّ هذا الموقف له معانيه إذا رُبط بتخصيص المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي كلمة لتأبين السيد نصرالله فيما هو يمسك بالبندقية، وهذا يعني تلقائياً في هذه اللحظات الحاسمة استعداداً للحرب وحمل السلاح إلى جانب لبنان.

الثنائي الشيعي وحلفاءه لا يعيرون الاستحقاق الرئاسي أيّ اهتمام في ظلّ استمرار العدوان الإسرائيلي...

استثمار في الرئاسة

وفي موازاة الحرب الإسرائيلية العدوانية على لبنان، تسعى الولايات المتحدة إلى الاستثمار سياسياً لخدمة مصالحها في بيروت، فاستفاقت على الاستحقاق الرئاسي الذي لطالما نفضت يدها منه، مؤكّدة لجميع المسؤولين والسياسيين الذين زاروا واشنطن ولا يزالون، أنّها ستتعاون مع أيّ رئيس ينتخبه اللبنانيون، وأن ليس لديها مرشح ولا تدعم أيّ مرشح إلى درجة أنّها أبلغت إلى بعض المراجع المسؤولة بلسان سفيرتها السابقة دوروثي شيا أن لا مشكلة لديها إذا انتخب رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية الذي يدعم الثنائي الشيعي وحلفاؤه ترشيحه.

ووفق المقولة الشعبية القائلة "الناس بالناس والقطة بالنفاس" يأتي طرح انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية في هذه المرحلة، وهو موقف ينمّ عن شعور بأنّ فريق "الثنائي الشيعي" وحلفاءه المتمسّكين بدعم فرنجية دخلا في مرحلة ضعف بعد اغتيال نصرالله والضغط العسكري الإسرائيلي الراهن، وبات بإمكانهما القبول بمرشح بديل لفرنجية يكون "توافقياً ولا يشكّل تحدياً لأحد". والغريب أنّ هذا الموقف أعلنه اللقاء الثلاثي الذي انعقد الأسبوع الفائت وضمّ رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي السابق وليد جنبلاط. قبل أن يتبيّن من ردّة فعل فريق المعارضة عليه أنّه ليس طرحاً أميركياً، وإنّما إعادة للاستحقاق الرئاسي إلى المربّع الأول، لأنّه اقترن بدعوة إلى لقاء حواري يسبق الانتخاب، وهو ما عبّر عنه ميقاتي عقب زيارته الأخيرة للبطريرك الماروني بشارة الراعي بغية إطلاعه على مبادرة "الثلاثي"، ليلقى على الأثر انتقاداً لدى المعارضة حين سارعت "القوات اللبنانية" عبر دائرتها الإعلامية إلى اعتبار ما يجري "مسرحيات التذاكي" إذ قالت "إنّ الوقت ليس للتعطيل ولا لمسرحيات التذاكي، إنّما الوقت لإخراج لبنان واللبنانيين من هذه المأساة، والخطوة المطلوبة على هذه الطريق تكمن في الدعوة الفورية إلى جلسة انتخابات رئاسية مفتوحة بدورات متتالية حتى انتخاب رئيس للجمهورية". وأضافت: "ما إن أبدت "القوات" والمعارضة كلّ إيجابية، كالعادة، حتّى راح الفريق الآخر يتراجع شيئًا فشيئًا، بدءًا بربط الانتخابات الرئاسية بوقف إطلاق النار، مرورًا بشرط تأمين توافق 86 نائبًا، وهذا أمر مستحيل، وصولاً إلى اعتبار النائب السابق سليمان فرنجية توافقيًّا، وهذا فضلاً عن تأكيد مصادر عدة من "حزب الله" أنّ الوقت الحالي ليس وقت الاستحقاقات الدستورية ولا الملفات السياسية، إنّما الوقت هو للميدان".

نسيج في الهواء

على أنّ الموقف الأميركي الذي فهمه البعض دعماً لترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون كرئيس توافقي، والبعض أرفق أيضاً اسم المدير العام للأمن العام بالوكالة اللواء إلياس البيسري، تصدّى له رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل الذي رفض الإسمين أو على الأقلّ إسم عون، لكن من الواضح أنّ الثنائي الشيعي وحلفاءه لا يعيرون الاستحقاق الرئاسي أيّ اهتمام في ظلّ استمرار العدوان الإسرائيلي، وتقول أوساطهم أنّهم لا يمكنهم أن يقبلوا بأيّ خيارات رئاسية تفرض عليهم تحت جناح الحرب، أو الاعتقاد في أنّهم وهنوا أو ضعفوا. ولذلك، حسب أوساطهم، ليسوا في وارد البحث في أيّ شأن رئاسي ما لم تتوقف الحرب وتتضح نتائجها. وهم يعتبرون أنّ حديث الأميركيين وغيرهم داخلياً وخارجياً عن انتخاب رئيس هو بمنزلة "نسيج في الهواء"، وهو تعبير كان الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين يستخدمه في التعبير عن عدم تأييده لأيّ طرح سياسي لا يراه مناسباً لحلّ الأزمة اللبنانية.