"لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها"، تقول الولايات المتحدة الأميركية ويردد خلفها الغرب ببغائياً. بمعنى آخر، يحق لـ "العالم الحر" أن يستعمر أيّ أرض، وأن يقتل من عليها، وأن يعلنها وطناً له، وأن يتوسع نحو الأراضي المحيطة به عند حدود الدولة التي اغتصبها ليؤمن على نفسه وعلى البشر الذين أحضرهم معه من أقاصي الأرض ليقيموا فوق أرض غيرهم بطمأنينة وسلام.
لا بأس في أن يخرج بعض العرب ممن يقيمون على مسافات بعيدة من بطش الجيش الإسرائيلي ليعلنوا رفضهم التصدّي لأطماع الاحتلال، داعين إلى نبذ المقاومة، مروّجين لمنطق مشروع عربي مستقل متصالح مع محيطه، وكأنّ المشكلة في العرب أنفسهم لا في من اغتصب فلسطين ونكّل بأبنائها، ولا في من يحتلّ "أراضي عربية" في لبنان وسوريا، ما دامت بقية الدول لم تعد ترى في هذا الكيان المسخ احتلالاً، ولم تعد تجد في وجوده عائقاً أمام السلام.
حتى القبور صرخت، ولكن صمت العالم كان أكثر دويّاً حتى من صوت آخر هدايا واشنطن من العتاد الحربي إلى تل أبيب.
لا تعلم إسرائيل كم قتلت من المدنيين، أو أقلّه هذا ما صرّح به أحد المتحدثين باسمها، وهو إسرائيلي هذه المرة، لا بأس ففاتورة القتل تسددها واشنطن، وما على الإعلام الغربي ووكالات الأنباء العالمية إلا العمل على صياغة تظهر كأنّ المجازر التي يرتكبها الاحتلال إنما هي قدر الضحايا، هم قُتلوا خلال تبادل لإطلاق النار أو خلال القصف، أو جراء غارة. تماماً كما صُلب المسيح أو عُلّق على الخشبة. هي إرادة إلهية يطبقها بنو إسرائيل منذ وجدوا، ولا بأس في أن نكرر ما يقوله قتلة الأنبياء، لا بأس في أن نتبنى سرديتهم. بل أن نغالي فيها بحيث يصبح نقل فعل تحييد بدل قتل مسألة عادية بل بديهية في أدبيات نقل الأخبار.
أكثر من ألفي ضحية وآلاف الجرحى وعشرات آلاف النازحين من أغلب المناطق الجنوبية وبعض البقاعيْن الغربي والأوسط وصولاً إلى منطقة بعلبك. مواطنون آمنون مؤمنون بديانات ومعتقدات مختلفة تشكل النسيج الوطني اللبناني على علّاته، كانوا على موعد مع "القدر الإسرائيلي" الذي لم يفرق بينهم حرصاً على الوحدة الوطنية في الموت وزرع الشقاق والفتنة بسبب هذا الموت في الحياة. هؤلاء كان لهم أهل وأبناء وأسماء، كانت لهم وجوه تعرف الفرح والحزن، كانت لهم أطراف تعينهم على التنقل في أطراف الوطن الذي قطعت آلة الحرب الإسرائيلية أوصاله تماماً كما قطعت أوصالهم. إسرائيل أبادت عائلات بأكملها من دون أن تترك لأحد فرصة وداعها أو حتى حضور جنائزها أو زيارة مدافنها التي لم تسلم من القصف أيضاً. وحشية لم توفر البشر ولا الحجر، يتحدث إحصاء غربي عن تضرر أكثر من 3100 وحدة سكنية خلال نحو أسبوعين. هي بيوت عابقة بالذكريات وقصص الحب وأحلام الطفولة، وبأمنيات راحة البال في أواخر العمر. هي جدران مزينة بصور الأهل والأبناء، وبصور من رحلوا ومن بقي منهم ينتظر دوره بحسب ما يشتهي رعاة البقر أو رعاة الحرية، لا أهمية للتسمية، فإنما إسرائيل تعيد تجسيد ما ارتكبه الغرب باسم المستوطنين الأوائل بحق الهنود الحمر وكل الألوان.
إذاً، هو الموت الذي يعدوننا به أو العجز. يريدونك عاجزاً عن مساندة المظلوم في فلسطين، وعاجزاً عن تحرير أرضك بالدبلوماسية، وعن مواجهة آلة الحرب الهمجية. إنْ قاومت فصفة الإرهاب لك، إمّا أن تكون محتلاً لأرض تقتل شعبها وتدمر معالمها وتغتال قادتها، وتقرر فرض إرادتك على من حولك بقوة النار والدمار، فأنت في نظر "العالم الحر" تدافع عن نفسك. يرى بعضنا أن الموت وأنت تقاوم أفضل من أن تكون عاجزاً وأنت على قيد الحياة.
لماذا لا يكون لبنان مثل غيره من الدول العربية التي لم تتحرك طوال سنة تحل ذكراها خلال أيام معدودة لنصرة أهل غزة؟ لماذا لم يكتفِ هذا الوطن الضعيف والمحاصر الذي يعاني من آلاف الأزمات بالصمت أو بالدعاء، إذا فتح فمه كغيره من دول العالم؟ لماذا لم يعلن انحيازه إلى جانب القاتل بوجه الضحية كما تفعل بعض الدول الغربية التي هرعت لنجدة إسرائيل حين قررت المقاومة فتح جبهة الجنوب لمنع الاستفراد بغزة وأهلها؟
من الواضح أن هذا الوطن الصغير بالحجم والمنهك بالأزمات بفعل الحصار والفساد والاحتلال والانقسامات، لم يتعلم الدرس. قاوم كل ما أصابه بقدرة قادر أو بفعل فاعل. انتصر لقيمه ولتعاليم الرسل والأنبياء والقادة، انتصر لإنسانيّته فقرروا شطب إنسانه عن الخارطة.
لا معنى لكل المنظمات الدولية، ولا قيمة لكل ما نادت به الأمم المتحدة من برامج إنمائية وشعارات طنانة ما دام لا قيمة للإنسان في أقصى أطراف الأرض. ولا معنى لكل حضارة الغرب التي تنفق مليارات الدولارات دعماً للقاتل وتترك أطفال الصومال يموتون من العطش. حتى القبور صرخت، ولكن صمت العالم كان أكثر دويّاً حتى من صوت آخر هدايا واشنطن من العتاد الحربي إلى تل أبيب.