يُختصر لبنان... بأرزه وعلمه وأعلامه ومعالمه.

ومذ وعيت بالسِّياسة، يُختصَر بالجنوب، جبل عامل وبلاد بشارة، والأرض التي شكَّلت خطى أنبياء وقدّيسين وأبرار وصالحين وطِئوها، سبحة صلاة.

هذا الجنوب الذي يجمع اليوم، في جراحه، البقاع والضَّاحية الجنوبيَّة، وكلَّ حبَّة تراب من لبنان، دنَّستها آلة الإجرام الشَّيطانيَّة، كان ملهمَ شُعراء وفنَّانين.

كان الجبلَ الملهم لهم، بإنسانه الأصيل، وأرضه الخيِّرة، وبيته الصَّامد، مهما عتت الرِّياح.

ومذ أصبح الجنوب، خصوصًا بعد حرب الأيَّام السِّتَّة، عام 1967، مسرحًا للحقد والأذى والعنتريَّات الشَّيطانيَّة، وكانت صور المنازل المدمَّرة في العرقوب (خصوصًا كفرشوبا وشبعا) تملأ الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، بدأ يتحوَّل مادَّة ثقافيَّة أدبيَّة فنِّيَّة.

وكانت البداية نهاية ستِّينات القرن الماضي، بأغنية "ألله معك يا بيت صامد بالجنوب...". أغنية بلحنٍ أقرب إلى الألحان التُّراثيَّة والفولكلوريَّة، مطعَّمٍ بآلات البزق والمجوز والطَّبل، نظم شعرها الرَّاحل الكبير أسعد سابا، ولحَّنها وأدَّاها صاحب أجمل الأصوات وديع الصافي.


ولهذه الأغنية التي احتلَّت الوجدان الشَّعبي، وراحت مذذاك تتردَّد على كلِّ شفة ولسان، ويؤدِّيها مغنون في معظم حفلاتهم، قصَّة خلال تسجيلها في الإذاعة اللبنانية.

كان تسجيل الأغنية، خصوصًا أغنية مناسبة من هذا الطراز، ملتقى لكبار في الفن. فإلى وديع الصافي وعوده، حضر التَّسجيل الشَّاعر سابا، ومسؤولو الدَّوائر الفنِّيَّة من ملحِّنين وشعراء وموسيقيِّين وتقنيِّين، وكذلك مدير الإذاعة آنذاك الجنوبيُّ، ابن النبطيَّة، كاظم الحاج علي.

اعترض الحاج علي على كلمة في نصِّ سابا، (لم أعد أذكرها)، ونصح بإبدالها، هو الجنوبيُّ، بالكلمة التي تميِّز الجنوبي: "بْنَوْبْ"... ما مندشّرك يا بيتنا. وهكذا كان، فأدَّاها الصَّافي بلفظ جنوبيٍّ، أضفى على الأغنية صدقيَّة أكثر.

الأغنية بسيطة وعميقة، في آن. لا تجترح بطولات، ولا تتضمَّن مبالغات، وإن خالفت وقائعُ الميدان اليوم، نيَّةَ الشَّاعر والمطرب وأهلِ الجنوب جميعًا "بْنَوْب ما مندَشّرك يا بيتنا". فهُجِّروا، ولم تعد لهم من المنازل سوى صورة في الذَّاكرة.

ليست المرَّة الأولى يُهجَّرون، لكنَّهم قبل انبلاج الفجر يعودون، ولو نصبوا خيمة أمام ركام البيت المدمَّر المسوَّى بالأرض، في الحي المدمَّر، ضمن القرية المدمَّرة. ثمَّ يعاودون بناء منزلٍ في المكان نفسه، لأنَّهم أبناء الأرض والحياة. فأقدامهم جذور ممتدَّة في الأرض، لا يمكن اقتلاعها، أنَّى تغرَّبوا، كما أعينُهم المرفوعة دومًا إلى فوق، إمَّا للصَّلاة، وإمَّا "لوثةَ" عنفوانٍ وكرامة.


كانت تلك الأغنية فاتحة لسلسلة أغانٍ، في مناسبات، تعرَّض خلالها الجنوب لاحتلالٍ ومآسٍ واعتداءاتٍ ومجازرَ وهدم ودمار وتنكيل... بعضها نجح وبعضها تحوَّل "تجارة"، إلى أن جاءت أغنية زياد رحباني كلامًا ولحنًا، بصوت الفتى فاروق الكوسا، "المقاومة الوطنيَّة اللُّبنانيَّة"، عام 1985، ضمن أسطوانة "أنا مش كافر"، لتعيد غناءها الكبيرة فيروز، ضمن مهرجانات بيت الدِّين عام 2000.

كانت صرخة احتجاج من زياد على "تجار" القضية. وإلَّا كيف نفهم قوله "خلَّصو الأغاني هني ويغنّو ع الجنوب/ خلَّصوا القصايد هنّي ويصفّو ع الجنوب/ ولا الشُّهدا قَلّو، وَلا الشُّهدا زادو/ وإذا واقف جنوبْ واقِفْ بِوْلادو/... اللي عَمْ يِحْكو اليوم/ هَوْ غير اللي ماتو/ اللي معتَّر بكلّ الأرض دايمًا هوي ذاتو"... وشاء زياد نصه هذا "تحيَّة وبس"، لا أغنية.


وإذ كثر الصَّخب الجنوبيُّ في الأغنيات والقصائد، نزلت أغنية "أسوارة العروس" التي كتبها الرَّاحل الكبير جوزف حرب، ولحَّنها الكبير الآخر فيلمون وهبة، وأدَّتها الكبيرة فيروز، لتتوِّج هذا النَّوع من الأغنيات الرَّاقية، البسيطة العميقة، التي تخلَّد في الوجدان.

فهل أجمل من أن تصدح فيروز "لما بغنّي إسمك، بشوف صوتي غِلي، إيدي صارت غيمة، وجبيني عِلي يا جنوب"؟ وهل أعذب من لحن هذه الجملة الموسيقيَّة التي تجعلُك تشعرُ أنَّك "تراقصُ شتلة تبغ"، بالإذن من الشَّاعر شوقي بزيع؟

ومع الاحترام الكبير لكلِّ نغمة حضاريَّة وصوت صادق وكلمة معبِّرة، قُدمت على مذبح الجنوب، قربان وفاء، وأخص بالذِّكر أعمال الكبير مارسيل خليفة، ومع استذكار حقبة "شعراء الجنوب" التي أغنت الحركة الثَّقافيَّة والأدبيَّة... أختم بما ختم به الرَّاحل جوزف حرب، ابن المعمريَّة الجنوبيَّة، ديوانه "كلُّكَ عِندي إلَّا أَنْت"، الصَّادر عام 2008، في الصفحة 416، الأخيرة...

كأني بجوزف حرب، في هذه القصيدة، يدرج الجنوب ضمن مأساة تاريخيَّة، وملحمة شجاعة، وأسطورة بطلٍ حيٍّ بيننا، ولو غاب.

كتب جوزف حرب، تحت عنوان "أَلْجَنُوبْ":

كُلٌّ

لَهُ بَيْتٌ إِذَا جَاءَ الْغُرُوبْ،

يَعُودُ حَتَّى يُمْضِيَ اللَّيْلَ بِهِ

مَهْمَا بَعُدْ،

إِلّا

الْجَنُوبْ.

فَمُنْذُ أَلْفَيْ سَنَةٍ

مَضَى إِلَى الْحُرُوبْ،

وَلَمْ يَعُدْ.

والجنوب اليوم، يا ابنَ الجنوب، جاءتِ الحرب إليه، وقد ذهب إليها، فانتظِرْ عودته ظافرًا...