الجنوبُ الذي أعرفه، قريةً قريةً، وقد جلتُ فيه جميعِه، وكتبتُ مدنَه وأهلَه قصائدَ ومقالاتٍ وأبحاثًا وتحقيقاتٍ وأحلامًا ورؤًى...

الجنوب الذي أحبُّه، حُبَّ كفِّ مزارعٍ لشتلةِ تبغ، والذي أعشقُ بساطته الغنيَّة بالقيمِ والأخلاق...

الجنوبُ الذي يدعوني بحرُه إلى رحلةٍ في مجده القديم، علَّنا نستعيده، وتفرش لي أرضُه خيرَها أنِّي في حضرة سلطان مخفيٍّ، هو الفلَّاح المكفيّ.

الجنوبُ اليوم تحتَ حقدِ الحديد والنار. حقد ما أبقى منزلًا، ولا سلمت من شرِّه عائلة.

الجنوب عرضة لاجتياح، هو الخامس في التَّاريخ الحديث، بعد الأعوام 1978، و1982، و1996، و2006... من دون أن يعتبرَ الشَّيطان الأصغر، من تاريخ اجتياحاته وانكساراته.

لهذا الجنوب، الجريح اليوم، المألوم، أَشْهُرُ في وجه جلَّادِه قصيدةً، لا سيفَ هي ولا رصاصة، بل كلمة، قل كلمات، تذكِّر بما قاله نابوليون، ذات يوم: الصِّراع في الأرض كان دومًا بين السَّيف والكلمة... وكانت دومًا الغلبة فيه للكلمة.

فهل من يسمع ويتَّعظ؟

الجنوب عرضة لاجتياح، هو الخامس في التَّاريخ الحديث، بعد الأعوام 1978، و1982، و1996، و2006... من دون أن يعتبرَ الشَّيطان الأصغر، من تاريخ اجتياحاته وانكساراته.

جَنُوبُ، هَاتِ يَدًا، مَدَّتْ يَدِي صُبُحَا

تُصَافِحُ الشَّمْسَ، فِي عَلْيَاكَ، وَالْفَرَحَا

أَيْنَ الصَّبَاحُ؟ سَأَلْتَ الْيَوْمَ عَامِلَةً

أَجَابَكَ التَّبْغُ: خُذْهُ مِنْ ضُحًى سُفِحَا.

أَيْنَ الْوُجُوهُ؟ وَكَانَتْ مِلْءَ بَسْمَتِهَا

ضَجَّتْ دِمَاءٌ، وَعُنْقُ الْحَقِّ قَدْ ذُبِحَا.

أَيْنَ الْمَنَازِلُ؟ هَلْ مَعْ أَهْلِهَا ارْتَحَلَتْ

عَلِّي أَشُوفُ، وَلَوْ وَجْهًا، إِذَا سَنَحَا.

أَيْنَ الزُّنُودُ؟ وَحَقْلُ الْمَوْتِ مُتَّسِعٌ

إِذْ كُلَّمَا غَارَ ثَلْمٌ، نَبْضُهُ صَدَحَا.

أَيْنَ الْجِبَاهُ؟ وَحَسْبُ الْمَرْءِ جَبْهَتُهُ

إِلَى الْأَمَامِ مَشَى، وَالسَّيْفَ وَالرُّمُحَا.

أَيْنَ الشَّرِيفَاتُ؟ هُنَّ الْبَيْتُ، مَا شَرَفٌ؟

إِلَّا بِهِنَّ تُرَابُ الْأَرْضِ مَا اتَّشَحَا.

أَيْنَ الزَّمَانُ؟ أَلِلْبُطْلَانِ جَوْلَتُهُ؟

وَأَيْنَ سَاعَةُ حَقٍّ عُمْرُهَا انْجَرَحَا؟

جَنُوبُ، هَاتِ دَمًا، فَالْأَرْضُ فِي عَطَشٍ

وَهَاتِ خُبْزًا، مِنَ الْأَجْسَادِ مُجْتَرَحَا

تَسْقِ الْكَرَامَةَ، تُطْعِمْهَا، فَلَيْسَ غَدٌ

بِلَا الْكَرَامَةِ، مَهْمَا الظُّلْمُ مَا كُبِحَا

وَقُلْ، جَنُوبُ، لِتَارِيخٍ بَنَى أُمَمًا

كَثِيرُ مَجْدِكَ مِنْ ذِي الْأَرْضِ قَدْ مُنِحَا

وَافْتَحْ لَهُ صَفَحَاتٍ بِالْعَطَا مُلِئَتْ

وَدُلَّهُ حَيْثُ كُنْتَ الضَّوْءَ وَالْفُسَحَا.

جَنُوبُ هَاتِ غَدًا، مَا هَمَّ أَزْمِنَةٌ

غَدٌ بِبَسْمَةِ طِفْلٍ تَطْرُدُ الشَّبَحَا

أَطْفَالُكَ الْيَوْمَ، مَهْمَا الْحِقْدُ شَرَّدَهُمْ

إِلَيْكَ يَأْوُونَ، لَيْتَ الْمَاءَ وَالْقَدَحَا،

يُلْقُونَ أَحْلَامَهُمْ فِيكَ انْبِثَاقَ هُدًى

يَطْوُونَ مَا كَانَ يَوْمًا فِي الْحَشَا جُرُحَا.

هُمْ، يَا جَنُوبُ، يَدٌ، هُمْ، يَا جَنُوبُ، غَدٌ

وَأَنْتَ صُبْحُهُمُ يَغْدُو بِهِمْ فَرِحَا.    

***

حاشية في حجم تاريخ:

لم ينمِ الشُّهداء تلكَ اللَّيلة.

أهلُ القتال منهم، رصُّوا الصُّفوف. أدُّوا التَّحيَّة. شحذوا أشواقهم. انحنَوا، وقد مرّ من أمامهم روح السَّيِّد.

الأطفالُ من بينهم، ارتدَوا براءتهم الجديدة، كأنَّهم في عيد، وفَردوا أجنحتهم يواكبون، كملائكة، روح السَّيِّد.

عارفوه، من ضمنهم، وأهلُه وصحبُه، تجمَّعوا لملاقاة روح السَّيِّد. كان يبسم كعادته، وهم يسمعون نَبْرةَ غضبِه التي حنُّوا إليها، مذ رحلوا، ويلمعُ أمام أعينهم خاتمُه، وتستنفرُ تلك الإصبع.

وكأني بهم جوقٌ... فراحوا يهتفون:

بَكَتِ الشَّهَادَةُ وَالْمَآقِي أَدْمُعُ

وَعُلَى الْجَبِينِ لِذِي الشَّهَادَةِ يَرْكَعُ

فَالْعُمْرُ كَانَكَ سَيِّدًا وَمُقَاوِمًا

وَإِلَى ابْتِسَامِكَ كَمْ تَهَادَتْ أَضْلُعُ

تَبْقَى... وَمِنْكَ مَدَى الزَّمَانِ مَوَاقِفٌ

وَتُطِلُّ فِي الذِّكْرَى عَلَيْنَا الْإِصْبَعُ.