على مدى قرابة العام، لم يتحرك العالم بهذه الحماسة بحثاً عن وقف لإطلاق النار، مكتفياً بالدعوات والتمنيات والصلوات. وبالطبع من دون تحميل إسرائيل المسؤولية عن المجازر المرتكبة في حق المدنيين العزل في غزة، في ما وصفته أغلب المنظمات الدولية بأنّه حرب إبادة. ولكن ما إن استشعر العالم بأنّ تل أبيب في مرمى النار حتى هُرع الجميع لتطييب خاطر دولة الاحتلال وإغداق الوعود عليها بمنع تكرار ما حصل، بعدما أغدقوا عليها المال والعتاد لشنّ أطول حرب تستهدف أصغر بقعة أرض بأعلى كثافة سكّانية.

سارع العالم إلى نجدة إسرائيل، مع العلم أنّها هي التي ترتكب المجازر في حقّ المدنيين، أكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة أم في لبنان. لم يتأثّر الغرب المتحضّر بمجزرة "البايجرز"، وهي سابقة في الحروب، جريمة حرب بكل ما للكلمة من معنى، استهدفت أجهزة منتشرة في مناطق مختلفة من دون اعتبار لمن هم في محيط حملة هذه الأجهزة من أطفال أو نساء أو عزل. وتحوّلت الجريمة إلى مادة للتندر في الإعلام الذي يحاضر في الموضوعية والإنسانية. ولكن للإنسانية عنده مواصفات محدّدة تتمثّل في العيون الزرق والشعر الأشقر. أمّا مسألة الاحتراف فسقطت منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة وتمثيليات هروب المراسلين من القصف، أو نشر روايات الاحتلال الكاذبة من دون تدقيق، ووفق صيغة التحرير نفسها التي تخدم الرواية الإسرائيلية.

زرع الغرب كياناً غاصباً في أرضنا ودعمه في حروبه التوسعية تحت عناوين مختلفة. وفّر له الحماية من أي مساءلة أو عقاب، حتى أنّ حق النقض الفيتو الغربي والأميركي تحديداً أصبح كأنه وُجد لحماية إسرائيل وتغطية جرائمها. أميركا نفسها التي تحمي إسرائيل عجزت عن منعها من مواصلة بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة على نحو يتنافى مع حق الدولتين الذي رعته واشنطن نفسها. ولكن لم يكن بوسع الرئيس الأميركي جو بايدن سوى التعبير عن امتعاضه من هذا الأمر، من دون أي خطوة فعلية لوقف الاستيطان. وعندما انتفض الفلسطينيون المحاصرون في غزة دفاعاً عن حقهم بحدّه الأدنى، هبّت الأساطيل الغربية لنجدة إسرائيل.

يحقّ للغرب أن يأتي إلى بحرنا وسمائنا وأرضنا لنجدة مغتصب وقاتل، ولا يحق لنا، نحن أهل الأرض وأصحاب القضية، أن نتضامن لنصرة بعضنا بعضاً. دخلت المقاومة اللبنانية على خط إسناد غزة وأهلها. استكثروا على فلسطين وجود قلة تدعمها ولو بمشاغلة حدودية. سخروا مما كان يجري عند الحدود. رغم أن العدو أقر بكلفته من حيث نزوح عشرات آلاف "المستعمرين". استخفّوا بالأسلحة التي يستخدمها حزب الله، وقالوا إن إيران تمنعه من استخدام صواريخ أطول مدى. تبنّوا مقولة الجيش الإسرائيلي، ومفادها أنه قضى على منظومة الحزب الصاروخية، بخّسوا حجم ردّه على اغتيال قادته وقالوا إنّه "انتهى".

فكانت حيفا وتل أبيب وكانت الصدمة. الحديث عن حروب صغيرة ومشاغلات شكلية والالتزام بالأوامر الإيرانية لم تبقَ قابلة للتسويق. فتحوّل السؤال لماذا لا تدخل إيران في الحرب، وإيران ضحّت بالحزب وبحماس من أجل برنامجها النووي. وإيران تحاور واشنطن. مع العلم أنّ أصل الحديث كان رفض التدخل الإيراني في لبنان ومناشدة طهران الانخراط في مفاوضات لتخفيف التوتر، والقول بضرورة أن تكون على وئام مع محيطها، وهو محيط يتمتع بأفضل العلاقات مع أميركا، فما الذي اختلف اليوم عن الأمس؟

وعندما بلغت النيران العمق الإسرائيلي صمتت جميع أبواق السخرية والتبرير والتطبيل للعدو...

المسألة أنّ الوحشية الإسرائيلية ضد لبنان حصدت خلال أيام معدودة آلاف المدنيين، ودمرت مناطق واسعة في الجنوب والبقاع، وكانت التبريرات الغربية حاضرة لوصف ما يحصل بأنه حرب ضد الحزب، كما الحديث عن استهداف مواقع عسكرية في لبنان، فكانت المستشفيات والصيدليات والبيوت الآمنة هي الهدف. في تكرار بغيض للرواية نفسها التي اعتمدها الاحتلال في حربه على غزة مدعوماً بجوقة المطبّلين نفسها في الإعلام الغربي والعربي.

وعندما بلغت النيران العمق الإسرائيلي صمتت جميع أبواق السخرية والتبرير والتطبيل للعدو. اليوم، رغم حجم الخسائر والأضرار الجسيمة في لبنان، فإنّ العمق الإسرائيلي ليس بمنأى عن تلك النيران. الاقتصاد والسياحة والزراعة والمال وكل القطاعات في كيان الاحتلال متضرّرة جراء ما يحصل. لأول مرة، تغدو كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة هدفاً للرد على الجرائم الإسرائيلية. اليوم، لم يعد الإسرائيلي يقف عند سفوح الجبال ليراقب نيران مدافعه تحصد أرواح الفلسطينيين أو اللبنانيين. اليوم، اختبر الإسرائيلي معنى النزول إلى الملاجئ، ومعنى دويّ صافرات الإنذار ليس في الشمال فحسب بل كذلك في جميع مدن الكيان المغتصبة.

الحديث عن وقف لإطلاق النار لن يكون منّة أو مكرمة من أجل عيون لبنان، بل لأن إسرائيل أيضاً أصيبت بشظايا ما يجري. فكما كانت مجزرة الميركافا في حرب العام 2006 هي التي دفعت العدو إلى القبول بوقف لإطلاق النار، ليس ببعيد أن نسمع خلال قابل الأيام بتطورات ستنزل إسرائيل عن الشجرة.

ويبقى الأهم، وهو التذكير بأن السلام مع إسرائيل بعد كل ما ارتكبت من مجازر وإجرام لن يكون قريباً، لا بل بات أبعد بسنوات طويلة جداً. فالذين خسروا أهلهم اليوم في فلسطين ولبنان وفي غير مكان، يعرفون القاتل ويعرفون مكان إقامته. أهم ما حققته إسرائيل أنها قضت على كل جهود تلميع صورتها التي صُرف عليها مئات الملايين من الدولارات. محاولات تصويرها دولة حضارية في هذا الشرق أصيبت بنكسة بل بنكبة. فأي حضارة هذه التي تقتل الأطفال والنساء ويخرج قادتها ليفاخروا بما ارتكبت أيديهم وليتوعدوا بسفك المزيد من الدماء؟ ولم يبقَ من الممكن الحديث عن مبادرة السلام العربية التي أعلنت من بيروت في العام 2002 من دون استعادة شريط الأحداث والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل منذ ذلك اليوم إلى الآن، وهي أعادت إحياء صور المجازر التي اقترفها الكيان الغاصب منذ العام 1948. حينذاك لم يكن هناك من كاميرات لتوثق. أما اليوم فجميع المجازر موثقة بالصوت والصورة وبتصريحات قادة العدو أنفسهم. وما الغارات الإسرائيلية التي استهدفت ضاحية بيروت الجنوبية مساء أمس إلّا عيّنة من حجم الإجرام الصهيوني. قال البعض محاولة اغتيال، وقد يكون غاب عنه أنّ المقاومة فكرة، والفكرة توارثها المقاومون عبر التاريخ. أمّا اغتيال القادة فهو ما يعتبره المقاومون أعلى درجات التضحية والالتزام، وهناك أجيال تنتظر دورها لتقود المسيرة. 

من الواضح أنّها معركة ما بعد بعد حيفا، إن لم تكن اليوم، فهي لا بد آتية.