يجزم ديبلوماسي عريق خبير بالسياستين الأميركية والغربية بأنّ لبنان والمنطقة ليسا ذاهبين إلى حرب شاملة أو مفتوحة على الرّغم من تصاعد المواجهات والقصف المتبادل بين إسرائيل وحزب الله، بالتزامن مع استمرار الحرب التدميرية الإسرائيلية على غزة. إذ كان يمكن هذه الحرب أن تنشب إثر ردّ الحزب على مجزرتي تفجير "البايجر" و"الووكي توكي" واغتيال القائد العسكري للحزب ابراهيم عقيل وأكثر من 17 قيادياً وكادراً عسكرياً في الضاحية الجنوبية لبيروت، رغم أنّ الحزب اعتبر هذا الرد "دفعة أولى على الحساب" وأعلنها بعد قصف حيفا وما بعدها وما حولها وما قبلها، معركة "الحساب المفتوح"...
ويقول الديبلوماسي بكثير من الثقة إنّ تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا تعدو كونها تهديدات لإمرار المرحلة الراهنة في انتظار عبور محطة الانتخابات الرئاسية الأميركية. ويؤكّد الديبلوماسي أنّ الحالة السائدة لا تزال هي نفسها، إذ لا مصلحة لأحد في حرب مفتوحة، وقد دخل الأميركيون والبريطانيون على الخط ويعملون على منع نشوبها، وفي هذا السياق، فإنّ تهديدات نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت ليست بجديدة، فهما يرددانها منذ ما يربو على ستة أشهر وأكثر، فما يقولانه لا يعدو كونه عرض عضلات وتخويفاً لا أكثر. ويضيف: لقد وصلت إسرائيل إلى حالة تعاني فيها من ضغوط خارجية وأخرى داخلية، بالإضافة إلى الخلاف العاصف بين أركان المنظومة السياسية، ولم يعد في إمكانها الاستمرار في وضع كهذا، ولذلك بات هذا الخلاف يأخذ طابع حرب كسر الإرادة، أي حرب يريد منها كل فريق من المنظومة أن يكسر إرادة الفريق الآخر.
ويضاف إلى ذلك، يقول الديبلوماسي، أنّ الاسرائيليين لم يعد في استطاعتهم تحمّل استمرار الحرب على غزة وفي الشمال إلى فترة أطول ممّا وصلت إليه، كذلك لم يعد في إمكانهم الاستمرار فيها لأكثر من أربعة أشهر، ولا يستطيع الإسرائيليون من جهة ثانية الدخول إلى لبنان وخوض حرب مفتوحة، وهي حرب غير مسموح لهم، أميركياً على الأقل، أن يخوضوها ولا هم في الأساس قادرون على خوضها. ولذلك فإنّهم يقصفون لبنان لهدف كسر إرادة حزب الله، أو على الأقل لدفعه إلى التراجع قليلاً عن مطالبه والقبول بتنفيذ القرار الدولي الرقم 1701 كما يطلبون، من حيث التراجع عن الحدود إلى شمال الليطاني، لأنّ هذا الأمر هو "آخر نفس" لدى الإسرائيليين ولم يعد لديهم وقت أو مجال، وليس لمصلحتهم داخلياً وسياسياً وخارجياً، فلذلك فإنّ المرحلة هي مرحلة كسر إرادة، ولذا يقولون لحزب الله إنّك ستدفع ثمناً كبيراً إذا لم "تطرّيها" في المفاوضات الجارية.
إسرائيل الكبرى
ويضيف هذا الديبلوماسي أنّ الجميع يشاركون في العملية ولا أحد منهم يعرف كيف ستنتهي، ولكنّها على الأرجح ستنتهي إلى تبريد واتفاق، بمعزل عن القضية الفلسطينية. بحيث سيبقى التوتر ولكن الإسرائيلي سيخسر إلى حد كبير في المستقبل المنظور. ولكن في هذه الحال فإنّ نتنياهو سيستمر في مشروعه الهادف إلى تصفية "حلّ الدولتين"، فهدف اليمين الإسرائيلي المكوّن منه ومن بن غفير وسموتيرتش وآخرين، هو إقامة "إسرائيل الكبرى" وتخفيف ما أمكنهم من الوجود الفلسطيني فيها، حتّى يتمكّنوا من ضمّ قطاع غزّة والضفة الغربية إلى هذه "الإسرائيل الكبرى" لأنّها في الوضع الديموغرافي الحالي يوازي عدد الفلسطينيين فيها عدد اليهود. ولذلك يعمل الإسرائيليون على ما يسمّونه "تشحيل" ما أمكنهم من الزيادات في عدد الفلسطينيين، ودفعهم إلى النزوح أو الهجرة من تلقائهم عبر تحويل حياتهم صعبة في المناطق التي يعيشون الآن فيها. وعليه، فإنّ الاسرائيليين دمّروا البنية التحتية في قطاع غزة على نحو بات صعباً على الفلسطينيين أن يعيشوا فيها، والأمر نفسه يفعله الإسرائيليون الآن في الضفة الغربية، حيث أنّهم كلّما دخلوا مدينة أو بلدة جرفوا شوارعها وطرقاتها مدمّرين كلّ البنى التحتية فيها.
ويتابع الديبلوماسي أنّ الإسرائيليين يدركون أنّهم لا يستطيعون إخراج جميع الفلسطينيين أو نصفهم أو حتى ربعهم من الضفة والقطاع، ولكن بعد تدمير البنى التحتية سيصبح عيش الفلسطينيين فيها أشبه بالجحيم، وهذا ما سيدفعهم إلى الهجرة، ولذلك عاد الإسرائيليون إلى الحديث عن إقامة مستعمرات في قطاع غزة، خصوصاً في محور نتساريم الذي كان منطقة الاستيطان في القطاع قبل الانسحاب الإسرائيلي منه عام 2005 أيام ارييل شارون الذي تمنّى يوماً أن ينهض من نومه ويجد أنّ غزة قد ابتلعها البحر، وذلك بسبب عجزه عن السيطرة عليها في تلك المرحلة.
ويلاحظ الديبلوماسي نفسه كيف أنّ الإسرائيليين يرمون "بالونات الاختبار" في هذا المجال بغية استكشاف الردّ الأميركي والبريطاني والأوروبي على مخطّطهم لإقامة "إسرائيل الكبرى"، ومدى التجاوب مع هدفهم الذي يرون أنّ على الدول الغربية أن تأخذه في الاعتبار، لأنّهم حتّى ولو فشلوا في عملياتهم العسكرية والأمنية على حدود لبنان الجنوبية، أو توصّلوا إلى اتفاق مع "حزب الله" لن يتخلّوا عن مشروع إقامة "إسرائيل الكبرى" بل سيستمرون فيه وسيواصلون حربهم على الفلسطينيين في الضفة والقطاع لـ"تشحيل"ما أمكن من عدد الفلسطينيين فيهما بما يخدم مشروعهم.
الحرب المفتوحة لا أحد يريدها، ولأنّها خسارة للجميع للأميركيين وللإيرانيين وللإسرائيليين، المساعي مستمرّة بقوة... من أجل تبريد الجبهات...
وعن مدى استفادة الإدارة الأميركية ممّا يجري لاستثماره في مصلحة الحملة الانتخابية للمرشحة الديموقراطية كملا هاريس، يقول الديبلوماسي الخبير بالسياسة الأميركية "أنّ اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة الاميركية قوي جداً بدرجة أكبر ممّا يُحكى عنه هنا في المنطقة، فهو "يملك" الكونغرس حيث أنّه "ُيربّي" اعضاء هذا الكونغرس على يديه منذ أن يترشّحوا للانتخابات، ولا سيما منهم صغار السن الذين يُشغّلهم في تنفيذ ما يريده مقابل دفعه تكاليف حملاتهم الانتخابية التي تبلغ مئات آلاف الدولارات، بمعنى آخر أنّ الكونغرس "مُشترى" من اللوبي الإسرائيلي، بدليل أنّ نتنياهو عندما زار واشنطن قبل أسابيع وألقى خطابه أمام الكونغرس الأميركي، تعامل مع الحاضرين بفوقية بحيث قال لهم عندما ضجّوا تصفيقاً له طويلاً: "اسكتوا واسمعوا".
أكثر من ذلك، فإنّ السياسة الأميركية لا يمكنها أن تبتعد عن اللوبي اليهودي كثيراً، وخصوصاً في حالة الرئيس بايدن الآن، لأنّه لأسباب انتخابية لا يستطيع معاداة اليهود أو اللوبي الإسرائيلي في هذه السنة الانتخابية بالذات، إذ تبرز فيها قوة انتخابية مؤلّفة من العرب الأميركيين والشباب المتقدّمين وكلّ الجماعات التي كانت انتخبته وشكّلت قوة له، ولكنها الآن تعلن أنّها لن تصوّت لكملا هاريس ولا لدونالد ترامب، وإنّما ستصوت لـ"حزب الخضر". ولذلك يتسابق ترامب وهاريس إلى اجتذاب هؤلاء. علماً أنّ نتيجة الانتخابات الأميركية تحسمها كالعادة أصوات الناخبين في 6 ولايات، لأنّ الأصوات في بقية الولايات محسومة خيارتها نهائياً، بعضها يصوّت تاريخياً وتقليدياً إمّا للجمهوريين أو للديموقراطيين باللونين الأخضر والأحمر الموجودين على خريطة الانتخابات أخضر وأحمر. ومن الولايات غير المحسومة الخيارات: أريزونا، جورجيا، بنسلفانيا، ميشيغن، نورث كارولينا، فلوريدا. ويضيف البعض إليها نيفادا ومينيسوتا وويسكنسون، وفي هذه الولايات يتنقّل الناخبون من جهة إلى جهة. ولذلك فإنّ كلّ الحملات الانتخابية تتركّز حالياً عليها. أمّا بقيّة الولايات فآراء الناخبين فيها محسومة بحيث ينتخبون بلا تردد المرشح الجمهوري أو المرشح الديموقراطي، ولا تذبذب في مواقفهم منذ بداية الموسم الانتخابي. أما في تلك الولايات المتذبذبة فإنّ ناخبيها يعلنون حالياً أنّهم لا يريدون انتخاب لا المرشح الجمهوري ولا المرشح الديموقراطي، ولذلك يحاول بايدن استقطابهم لمصلحة هاريس بكلام يعبّر فيه عن التضامن مع الفلسطينيين، ولكن سياسة إدارته لا تتغير رغم كلامه عن أنّ من حقّ الفلسطينيين أن ينالوا حقوقهم وفق "حل الدولتين" رغم إدراكهم أنْ هذا الحلّ قد يتحقق في القرن المقبل وليس في هذا القرن.
الخوف على أميركا
ويقول الديبلوماسي الخبير بالمواقف الغربية إنّ الخوف الأساسي عند الأميركي العادي هو أنّه أيّاً كان الفائز في الانتخابات الأميركية فستسود بعد انتخابه حال من عدم الاستقرار في الولايات المتحدة، فإذا فاز ترامب فلأنّه غير مستقر برأيه سيتسبّب بعدم استقرار في البلاد، وسيوقف السياسات الاجتماعية التي اكتسبها الأميركيون وعندئذ ستقوم القيامة عليه ولا تقعد. وإذا خسر فإنّه سينبري إلى توجيه الاتهامات إلى السلطات المختصة وإلى الديموقراطيين بتزوير الانتخابات، وينزل مؤيّدوه مسلّحين إلى الشوارع والساحات، وهذا ما يعرّض الاستقرار للاضطراب. فالجميع ينتظرون أن تكون الولايات المتحدة الأميركية بعد الانتخابات الرئاسية أمام هذين الاحتمالين، وهناك حال من خوف، قسم من الأميركيين خائف على الديموقراطية إذا فاز ترامب، فيما قسم آخر يدافع عن ترامب ويدحض ما يوجّه إليه من اتهامات، وما يساق من توقّعات عمّا يكون عليه وضع الولايات المتحدة إذا فاز بالرئاسة.ولكن في الاجمال فإنّ هناك انقساماً أميركياً كبيراً بين المرشحين الجمهوري والديموقراطي، ولكن استطلاعات الرأي لا تظهر حتى الآن وجود غالبية راجحة لأيّ منهما.
الحرب خسارة للجميع
ويستبعد هذا الديبلوماسي نشوب حرب واسعة في لبنان والمنطقة، متوقّعاً حصول تسوية، لأنّ الحرب المفتوحة لا أحد يريدها، ولأنّها خسارة للجميع للأميركيين وللإيرانيين وللإسرائيليين، ولأجل ذلك فإنّ المساعي مستمرّة بقوة، وتشارك فيها كلّ الجهات من أجل تبريد الجبهات ومنع الانزلاق إلى حرب مفتوحة، وغالب الظنّ أنّ هم نتنياهو ليس الحرب المفتوحة في لبنان، وإنّما همّه إحداث اشتباك بين واشنطن وطهران، وإذا أراد الدخول في حرب فإنّه سيدفع في اتجاه أن تؤدي إلى مواجهة مباشرة بين واشنطن وطهران، وهذا ما يهدف إليه منذ زمن طويل، إلى درجة أنّه في خطابه الأخير أمام الكونغرس كان واضحاً في تحريضه ضدّ ايران، خصوصاً عندما وصفها بأنّها "رأس الشر". فقد اتى على ذكرها أكثر 25 مرة في الخطاب فيما أتى على ذكر حزب الله مرتين فقط. وقال للأميركيين "إننا نحارب إيران دفاعاً عنكم" وذلك في محاولة منه لأخذ الرأي العام الأميركي في اتجاه دعم إسرائيل مثلما فعل اللوبي الإسرائيلي بتدبير شن الحرب على عراق صدام حسين، تحت عنوان امتلاكه أسلحة دمار شامل، التي تبين لاحقاً أنّها لم تكن موجودة، والآن يعمل هذا اللوبي الأمر نفسه ضد إيران، وإذا أراد أن يفتعل حرباً هنا ضد لبنان فإنّما سيسعى إلى توريط الولايات المتحدة الأميركية وأيران مباشرة فيها، ولكن في كلّ الحالات لا يمكن نتنياهو خوض مثل هذه الحرب في ظلّ جيش إسرائيلي منهك، علماً أنّ هذه الحرب إن نشبت فإنّها ستستمر سنوات فيما هو لم يخرج بعد من حرب غزة التي دخلت شهرها الثاني عشر. ولكن كلّ همّه الآن أن "يعلّقها" بين واشنطن وطهران، ولكنّه يريد أن يؤمن الذريعة أو مناسبة معينة بما يخدم مشروعه لإقامة إسرائيل الكبرى.
ولكن إلى أيّ مدى يمكن أن تكون هناك إمكانية لحصول تفاهم أميركي ـ إيراني قبل الانتخابات الأميركية؟ يجيب هذا الديبلوماسي: "هناك أمل في حصول هذا التفاهم لأنّ هناك عملاً يجري في هذا الاتجاه، فثمة اجتماعات واتصالات تحصل بين الجانبين ولا يُعلن عنها، والجانب الإيراني في ظلّ تولّي الإصلاحيين رئاسة الجمهورية يبدي انفتاحاً تجاه الولايات المتحدة الأميركية والغرب، ولكنْ هناك سباق بين أن يتمكّن نتنياهو من إشعال الحرب بين واشنطن وطهران، وبين أن ينجح الجانب الإيراني في عقد اتفاق مع الجانب الأميركي ويرميا نتنياهو خارجاً.
على أنّ ترامب في كلّ حركته الانتخابية يركّز على التأكيد أنّه " رجل سلام" وأنّ بايدن هو "رجل حرب"، ويقول: "عندما كنت رئيساً لم تحصل أيّ حرب، ولكن عندما تولّى بايدن الرئاسة حصلت حرب أوكرانيا وحرب غزة وحصل التوتر مع الصين".
ولكن السؤال الذي يطرحه البعض هو هل يستطيع ترامب أن يخوض حرباً إذا فاز بالرئاسة؟ ويجيب هؤلاء أنّهم يستبعدون ذلك، لأنّه ينادي بالسلام وحلّ المشكلات وقد تعهّد حلّ أزمة أوكرانيا "حتى قبل أن يتسلّم الرئاسة وقبل انتخابه" حسبما يقول خلال حملته الانتخابية، ولذلك لن يكون في وارد شنّ الحرب إذا فاز بالرئاسة. علماً أنّ الموقف نفسه قد ينطبق على هاريس التي لا تحبّذ أن تبدأ رئاستها بشنّ حرب.