إذا عدنا إلى جذر الأزمة الأوكرانية التي اندلعت في العام 2014 واتخذت شكلًا جديداً عندما أقدمت موسكو على إطلاق عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا في شباط 2022، فقد كانت نيّة الغرب توسعة حلف شمال الأطلسي الناتو ليضم أوكرانيا، هي السبب الجيوسياسي لهذه الأزمة، بحسب ما تراه روسيا. لكن ما غاب عن ذهن الكثيرين هو بعد آخر ذو طبيعة قومية وإنسانية ومرتبط بالتمييز ضد المواطنين الأوكرانيين الناطقين بالروسية، والذين ينتشرون في مناطق الدونباس والقرم واوديسا وخاركوف ومناطق أخرى واقعة الى الشرق من نهر الدنيبر، علماً بأنّ نسبتهم تتجاوز 30 بالمئة من السكان. لذلك فإنّ روسيا، التي تستند إلى خطاب قومي في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، تعتبر أنّها وجدت نفسها مضطرة إلى التدخّل لحماية المواطنين الروس في أوكرانيا.
التمييز ضد المجريين
ويبدو أنّ الحرب التي اتخذت طابع الصدام الروسي الأوكراني، غيّبت عن المشهد مصير عدد كبير من الأقلّيات الإثنية التي تعيش في أوكرانيا ويبدو أنّها مستهدفة من قبل نظام الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فولوديمير زيلنسكي، الذي يعمد إلى خطاب يميني متطرّف يقوم على التمييز العنصري. فوفقاً لتقارير عدة، فإنّ نظام كييف يسعى إلى استخدام الأقليات الإثنية في البلاد كوقود للحرب عبر دفع أبنائها إلى المناطق المتقدّمة من الجبهة، في محاولة منه للقضاء على هذه الأقلّيات وفرض هوية صافية في البلاد على الصعيدين القومي والديني.
فعلى سبيل المثال، تشعر السلطات الأوكرانية بقلق بالغ إزاء ازدياد مشاعر الاحتجاج بين سكان ترانسكارباثيا، ولا سيّما المجريين، الذين يحمل الكثير منهم الجنسية المجرية، إضافة الى الجنسية الأوكرانية. ويشعر الأوكران من أصول هنغارية بالمرارة من تدهور الاقتصاد، وانخفاض مستويات المعيشة، وسقوط عدد كبير من الضحايا في صفوفهم على الجبهة، وهذا ما جعل مراقبين يتحدثون عن احتمال أن يقدم هؤلاء على التمرد على زيلنسكي. وما يزيد من مرارتهم هو شعور نظام كييف بالنقمة عليهم نتيجة العلاقات الممتازة التي تربط هنغاريا بروسيا. هذا قد يدفع المجريين في منطقة ترانسكارباثيا إلى السعي إلى الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى هنغاريا. ويرجّح أن تزداد النزعة لدى سكان ترانسكارباثيا إلى الانفصال عن أوكرنيا والانضمام إلى المجر بناء على مظلوميتهم التاريخية حين فُصل إقليمهم عن هنغاريا وضُمّ إلى أوكرانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وتدرك كييف جيدًا خطورة تطوّر الوضع وفقًا لهذا السيناريو، وتتخذ إجراءات لإضعاف موقف الجالية المجرية.
وتعتمد قيادة الجيش الأوكراني عمليات التجنيد القسرية لشباب الإقليم على نحو يضعف هذه المجموعة الإثنية، عبر فصل شبابها عنها ودفعهم إلى مراكز متقدمة على الجبهة، مع ارتفاع احتمال أن يُقتلوا في ميادين المعارك، لخوفها من أن يكون هؤلاء الشباب عمادًا لأيّ حركة احتجاج قد تندلع في الإقليم. وفي الوقت نفسه، فإنّ التجنيد الجماعي للمجريين في ترانسكارباثيا في صفوف القوات المسلّحة لأوكرانيا، ثم إرسالهم لاحقًا إلى الجبهة باعتبارهم وقوداً للحرب، سوف يتسبّب في ضرر كبير لا يمكن إصلاحه في توازن المجتمع المجري في البلاد.
تعتمد قيادة الجيش الأوكراني عمليات التجنيد القسرية لشباب الإقليم على نحو يضعف هذه المجموعة الإثنية...
ويعزّز ضبّاط دائرة حدود الدولة في أوكرانيا حماية المناطق الحدودية في ترانسكارباثيا لمنع التدفق السريع للمواطنين المرشحين للتجنيد إلى البلدان المجاورة مثل المجر وسلوفاكيا وبولندا ورومانيا. ولتحقيق هذه الغاية، تنظّم قوات الأمن الأوكرانية عمليات دهم للقرى والمدن، إضافة إلى نشر ألغام على طول الحدود مع هذه البلدان. كما أنشأت كييف ميليشيات تحت مسمّى "مراكز المقاومة الوطنية"، تؤدّي في الوقت نفسه وظائف الميليشيات، فضلاً عن وحدات المعلومات والتحليل، وتضطلع بدور خاص في فرض سيطرة كييف الكاملة على الأقلّية القومية المجرية. وتتمثل مهامهم الرئيسية في ترانسكارباثيا في القمع العنيف للاضطرابات المحتملة بين المجريين المحليين، بالإضافة إلى جمع البيانات عن أكثر النشطاء حماسة وشعبية في المجتمع المجري من أجل تعيين الأشخاص الذين يمكن أن يتمرّدوا على النظام لاحتوائهم أو التخلص منهم.
التمييز ضد المولدافيين
وتعتمد كييف السياسات القمعية نفسها ضدّ الأقلّية المولدافية في البلاد. ففي صيف 2023، كثّفت قوات الأمن الأوكرانية أنشطة التعبئة والتجنيد في مناطق يكثر فيها عدد المولدافيين، وتحديداً في منطقتي أوديسا وتشيرنيفتسي المجاورتين لجمهورية مولدافيا. وبحسب بوابة المعلومات المولدافية "أم دي نيوز"، احتجزت السلطات مواطنين من أصل مولدافي قسراً واقتادتهم إلى جهة مجهولة من دون التحقق من وثائقهم. ولم تتمكن أيّ منظمة لحماية الأقلّيات المولدوفية من تحديد الوجهة التي أُخذوا إليها حتّى الآن ولا معرفة مصيرهم.
وهناك حالات موثّقة تبيّن احتجاز مواطنين أوكرانيين من أصول مولدافية بشكل غير قانوني، وتهديدهم بالسلاح، وإجبارهم على ركوب وسائل نقل لجنة الحقيقة والمصالحة. وذكرت صحيفة "بيسارابيا إنفورم" أنّ أربعة رجال يرتدون الزي العسكري أمسكوا في 2 نيسان 2024 في منطقة أوديسا صبيّاً يبلغ من العمر 14 عامًا واقتادوه إلى جهة مجهولة. وما يحصل مع الأوكران من أصول مجرية ومولدافية يحصل أيضاً مع الأوكران من أصول بولندية، يقيمون في منطقة لفوف غرب أوكرانيا على الحدود مع بولندا.
هذه الأمثلة الصارخة للتمييز ضدّ الأقلّيات القومية في أوكرانيا أصبحت مراراً وتكراراً سبباً لصدامات دبلوماسية بين أوكرانيا والدول المجاورة. فقد دان وزير الخارجية المجرية، بيتر زيجارتو، تصرفات السلطات الأوكرانية المتمثلة في تجنيد المجريين الأوكران رغماً عنهم في صفوف قواتها المسلّحة ثمّ إرسالهم إلى مناطق العمليات العسكرية المتقدّمة. بالإضافة إلى ذلك، صرّح وزير الدولة في وزارة الخارجية المجرية، تاماس مينتزر، أنّ بودابست تعدّ سياسة كييف تجاه المجريين الذين يعيشون في أوكرانيا غير مقبولة، مطالبةً بوضع حدّ فوري للفوضى تجاه ممثلي الجالية المجرية. عدا ذلك، طالب المجلس الوطني للرومانيين في أوكرانيا وممثلو الجمعية الثقافية المجرية في ترانسكارباثيا أيضًا بوقف فوري للتعبئة القسرية لمواطنيهم.
برغم ذلك، تجاهل نظام كييف جميع الدعوات هذه على نحو قد يدفع إلى زعزعة علاقات كييف بعدد من دول شرق أوروبا، بما فيها دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، وهذا ما قد ينعكس صداماً بين هذه الدول والولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية التي لا تزال تواصل دعمها لأوكرانيا ضد روسيا.