لم يصدّق معظم اللبنانيين أن يكون توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة مقدّمة لمحاسبته. الأكثرية تخطّت فعل الاحتجاز على ذمّة التحقيق أربعة أيام، لتستخلص "قطبة مخفية" تحمي سلامة من الملاحقة الدولية، و"تُلفلف" الملفّات، حمايةً "للرؤوس الكبيرة". فـ "التنفيخ على لبن" المحاسبة في بلد مصنّف الأكثر فساداً في العالم، مبّرر، بعدما اكتوى اللبنانيون من "حليب" التآمر عليهم لحماية مصالح المنظومة. فهل يسير ملف التحقيق إلى نهايته السعيدة؟ أم يُلبّس سلامة طربوش الإدانة وحيداً مع ضمانات بتخفيف الأحكام وعدم التعرّض لمن يهتم بهم؟  

من خارج المألوف، أوقف القضاء اللبناني الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة بعدما استوجبه النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار. وأتى التوقيف بناء على شبهات اختلاس أكثر من 40 مليون دولار جراء التعامل بين مصرف لبنان وشركة Optimum Invest - OI، خلال الفترة التي تعود إلى ما قبل أيلول 2023.  

بداية الشك 

"بذور" الاشتباه في اختلاس رياض سلامة مبالغ مالية، "زرعها" التدقيق الجنائي الذي قامت به "ألفاريز آند مارسال" بناءً على تكليف من الحكومة اللبنانية في أيلول 2021 للمرة الثانية، وصدرت نتائجه في تموز 2023. إلّا أنّ هذه الشبهات لم تتفاعل إلّا بعدما روتها الإدارة الجديدة لشركة Optimum Invest، الممثلة بالمساهم الوحيد LIBANK، بعد شرائه الشركة من أنطوان سلامة وشركائه، بطلبها تدقيقاً جنائياً. إذ عقدت الإدارة الجديدة في أيلول 2023، اجتماعاً للمساهمين لانتخاب أعضاء مجلس إدارة مستقلّين جُدد، مكلّفين تشكيل لجنة تدقيق خاصة مستقلة. وقد منح الاجتماع لجنة التدقيق الخاصة المستقلة سلطة تقديرية كاملة لاختيار شركة تدقيق جنائي مشهورة عالمياً لإجراء تدقيق جنائي في معاملات Ol مع مصرف لبنان. وقد اختارت اللجنة شركة Kroll لهذا الغرض. ومنحتها السلطة الكاملة لتجاوز الإدارة التنفيذية في حالة عدم التعاون مع فريق التحقيق التابع لشركة التدقيق.  

‏بيّن التدقيق الجنائي أن الشركة حصلت على قروض مقدارها 12 ألف مليار ليرة (8 مليارات دولار) من مصرف لبنان، واشترت بها سندات من المصرف بعملية وصفت بـ :" A sham transaction "، بحسب الاستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية المحامي كريم ضاهر، أي أنّها عمليات وهمية موّلها مصرف لبنان كي تشتري الشركة سندات من خارج السياق الطبيعي وتسجل أرباحاً. حُوّل مبلغ 8 مليارات دولار إلى حساب شركة Optimum في مصرف لبنان، حيث يعتقد أنّ أنطوان سلامة أوكل إلى المصرف التصرّف بالمبلغ وفقاً لما يراه مناسباً. مع العلم أنّ العودة إلى محاضر جلسات المجلس المركزي في تلك الفترة تُظهر عدم ورود أي من هذه العمليات في جدول أعماله الفضفاض. ويعتقد على مستوى واسع أنّ الحاكم كان يطلب من أعضاء المجلس المركزي (نواب الحاكم ومفوض الحكومة والمديرين العامّين في المالية والاقتصاد) التوقيع على محاضر الجلسات في ما بعد.  

التحقيق قد يفتح "صندوق باندورا" على لبنان بمصرفه المركزي ونظامه المالي والنقدي والمصرفي، ويجرّ دعاوى دولية لا قدرة للبنان الرسمي على التعامل معها.



التعاون مع القيادة الجديدة في المركزي 

تزايدُ الحديث عن فقدان 8 مليارات دولار من المركزي، وفضحُ القضية إعلامياً، "دفعا القيادة الجديدة لمصرف لبنان إلى التدقيق بمجريات القضية وإحالة المعلومات على الجهات القضائية وعلى المدعي العام التمييزي السابق، الذي بدوره أوكل إلى ثلاثة أطراف التحقيق بالمعطيات"، بحسب ضاهر، وهي: النيابة العامة التمييزية، والنيابة العامة المالية، وهيئة التحقيق الخاصة. وممّا تبين من الجزء الذي حققت فيه هيئة التحقيق الخاصة، والذي تقاطع مع تحقيقات المدعي العام التمييزي، أنّ هناك أكثر من 40 مليون دولار عمولات مفقودة أو مختلسة". أمّا المبلغ الأساسي المقدّر بـ 8 مليارات دولار، والذي تدور حوله الشبهات، فغالب الظن أنّ الحاكم السابق استعمله في قيود محاسبية لتغطية الخسائر في مصرف لبنان الناتجة من الهندسات المالية. وعلى الرّغم من أن إساءة الاستخدام لا تختلف عن السرقة، لكونها طريقة مشبوهة ومخالفة للأنظمة والقوانين، يستبعد ضاهر التوسّع التحقيق فيها لأنّها ستفتح "صندوق باندورا" على لبنان بمصرفه المركزي ونظامه المالي والنقدي والمصرفي، وتجرّ دعاوى دولية لا قدرة للبنان الرسمي على التعامل معها.  

العقوبات المفترضة 

تُركت إذاً الـ 8 مليارات دولار في حال سبيلها، وتركّزت التحقيقات على عمولات بقيمة تتجاوز 40 مليون دولار يشتبه في أن تكون مختلسة، وجرى تبييضها. وبحسب ضاهر، فإنّ "الجرم الأساسي المتمثل في الاختلاس وصرف النفوذ سيتبعه اتهام بتبييض الأموال إذا حُوّلت هذه الأموال إلى الخارج من دون التصريح عنها وتسديد الضرائب عليها لكونها أرباحاً". وتراوح عقوبة الاختلاس وصرف النفوذ، بحسب القوانين اللبنانية، بالسجن بين العام والثلاثة أعوام على اعتبار أنها جنحة وليست جناية. فيما تبييض الأموال يُعدّ جرماً وعقوبته وفقاً للمادة الثالثة من القانون 44/ 2015 السجن بين 3 و7 أعوام. وفي جميع الحالات، يعتقد ضاهر أنّ التحقيق في اختلاس 40 مليون دولار من المركزي سيشمل سلامة حكماً، لكونه إمّا فاعلاً، وإمّا ضالعاً، وإمّا مسهّلاً، وفي جميع الحالات متواطئاً. أكثر من ذلك، فإنّ ثبوت التهمة على الحاكم ستحصّن وتقوّي العناصر الجرمية في ألمانيا وفرنسا وستثبت عملية تبييض الأموال المتّهم بها.  

التشكيك في التوقيف 

هذه المشهدية انعكست تشكيكاً واسع النطاق بالقضاء. وقد تساءلت زينة واكيم، في حديث مع "الصفا نيوز"، وهي محامية مؤسِّسة لجمعية "المحاسبة الآن" التي تقدّمت بأوّل شكوى جنائية في فرنسا ضد رياض سلامة: "إذا حوكم رياض سلامة في لبنان، فهل يمنع هذا أيّ دولة أخرى من محاكمته على الجرائم نفسها". ولذلك "لا يمكن استبعاد أنّ هذا الاعتقال ليس سوى مناورة لتقويض التحقيقات خارج لبنان". 

كذلك تساءل المستثمر في الأسواق المالية الناشئة صائب الزين: "لماذا الآن توقيف سلامة، وهو على النشرة الحمراء للإنتربول منذ عام؟ تخميني هو أنّ الهدف هو تجنّب المزيد من التحقيقات في الخارج التي قد تضرّ بالعديد من اللاعبين المحلّيين، وبالتالي فإنّ الاعتقال يخدم الأهداف السياسية للمنظومة. آمل أن أكون مخطئًا".

في سياق متصل، يقول ضاهر "لا علاقة للملف الذي أوقف سلامة على خلفيته ببقية الملفات التي يحقّق الخارج فيها. فالدعاوى في فرنسا وألمانيا واللوكسمبورغ متعلّقة بتبييض الأموال الناتجة من عمولات "فوري" غير القانونية بقيمة 330 مليون دولار. وبتهم الفساد، وصرف النفوذ، واستعمال المزوّر وغيرها. وعليه، لا تضارب بين الدعاوى، بل العكس هو الصحيح، لأنّ الإدانة بملف اختلاس الـ 40 مليون دولار ستقوّي موقف الخارج، وتدفع إلى فرط عقد الجرائم المالية المرتكبة وتناثر حبوبه على كلّ بقاع الأرض".  

هل تصل التحقيقات إلى نهايتها؟  


السؤال الجدي الذي "ستجيب" عنه الأيام المقبلة، يتعلّق بما إذا كانت التحقيقات مع سلامة ستصل إلى النهاية وتكشف بقية الأطراف المتورطة، أم ستأخذ شكلاً من اثنين: تمييع الملف بتجميده أو حفظه وتخلية سبيل سلامة بعد دفع كفالة مالية، وإمّا إدانته منفرداً ليتحمّل وحيداً كلّ شرور المنظومة. وفي الحالتين هناك ثلاث عبر من التوقيف يجب التوقّف عندها، بحسب ضاهر:  
الأولى إيجابية، تعطي الأمل بانتهاء زمن التفلّت من العقاب، وتؤكّد أنّ ملاحقة الفاسدين بموجب الأطر القانونية والعلمية تعطي نتيجة مهما بلغت التعقيدات وتضارب المصالح بين المال والسياسة والقضاء.  
أمّا الثانية فسلبية، وتثير الخشية من أن يكون هناك مسعى إلى حصر المسؤوليات لكلّ عمليات الفساد في لبنان والانهيار المالي ببعض الأسماء، ومنها رياض سلامة. في حين يبقى أصحاب الميليشيات السابقون الذين تسببوا بالحرب، وأصبحوا الزعماء الحاليين المسؤولين عن الانهيار المالي، براء من جميع الارتكابات. وندخل مرة جديدة في زمن "عفا الله عما مضى". وتنتهي "قصة" الفساد باتهام بعض الأشخاص الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه.  
الثالثة قانونية، وتتعلّق بقيام الدولة اللبنانية ومصرف لبنان بواجباتهما في استرداد أموال الفساد هذه التي استخدمت لشراء أصول في الخارج بقيمة تقدّر بنصف مليار دولار. مع العلم أنّ الأصول المحجوزة فعلياً تفوق المئة مليون دولار.  

وصلت ملاحقة الفساد في لبنان أكثر من مرة إلى ما قبل رأس الخيط وانقطعت. وأكثر من مرة أيضاً استخلصت المحاسبة فن الشطرنج، فضحّت بالبيدق ليعيش الملك!