خطوة جريئة وسابقة غير معهودة في تاريخ لبنان، توقيف حاكم المصرف المركزي بشخص رياض سلامة الذي تربّع على أمبرطورية المال والسلطة وحكم البلد نحو ثلاثين عاماً. وقد انتهى به الأمر موقوفاً على ذمّة التحقيق خلف القضبان. وقع الخبر كالصاعقة على الرأي العام، وعلى المؤيدين له والمعارضين. بناءً على إشارة المدّعي العام التمييزي القاضي جمال الحجار، أُوقف سلامة بعد استجواب حوالى ثلاث ساعات في ملف "اوبتيموم"، وعلى خلفية شبهات باختلاس وتبييض أموال بملايين الدولارات.
خبر أحدث سيلاً من التعليقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واستتبع بتعليقات من حقوقيين وسياسيين، في مقدمهم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي نأى بنفسه عن الدخول في التفاصيل على اعتبار أنّ "توقيف سلامة قرار قضائي". ومثله فعل وزير العدل القاضي هنري الخوري. أمّا النائب السابق وليد جنبلاط فقد سكت عن الكلام المباح مكتفياً بنشر صورة لفرعون مصر محاطاً بالذهب، تاركاً العنان لمخيلة القرّاء لتفسير معنى ذلك ومغزاه.
وكان في صدارة التعليقات ما كتبه رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان في حسابه على منصة "إكس": حين يقوم القضاء بواجبه ودوره باستقلالية وجرأة يتحقّق العدل. توقيف رياض سلامة على ذمّة التحقيق يجب أن يكون أول الغيث. ونحذّر من محاولة التدخّل في القضاء وعمله، وخصوصاً في هذا الملف من أيّ جهة كان.
لكن كنعان سرعان ما حذف تغريدته خشية أن تُستتبع بتعليقات سلبية، خاصّة أنّه رئيس لجنة المال والموازنة التى أُدينت لكونها لم تُخضع سلامة للمساءلة نيابياً.
سلامة نال تطمينات بأنّ القضية لن تصل إلى حدّ التوقيف
وفي نصّ كتبه الوزير السابق منصور بطيش تحت عنوان"المسؤولون فعلاً أو تواطؤاً عن فجوة مصرف لبنان" جاءت لجنة المال في عداد الجهات المسؤولة عن التساهل مع سلامة لكونها "لمْ تسائل يوماً، لا وزير الماليَّة ولا شخص الحاكم، بشأن حسابات أُخفيَت بداخلها الفجوة والخسائر الهائلة".
من مفاعيل الخطوة سياسياً، أنّها تشير إلى تلك المعركة التي خاضها الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر والقاضية غادة عون خلال الولاية الرئاسية الماضية، واستمرّت فيها القاضية عون التي تولّت فتح ملف "أوبتيموم". وإذا أُسدل الستار على هذا الملف فيعني ذلك أنّه سُحب من يد القاضية المثيرة للجدل آخر ملفاتها، وتالياً، أُسدل الستار على آخر فصولها المالية في القضاء.
رحلة طويلة زاخرة بالخيبات تلك التي انتهى إليها الحاكم بأمر الجمهورية أواخر سنوات ولايته في حاكمية مصرف لبنان وبعدها، إذ بات موضع اتهامات بإفلاس البلاد، والعمل لمصلحة المصارف على حساب أموال المودعين، وغيرهما الكثير من العناوين. صاحب مقولة الليرة بخير الذي لم يتوقّف عن تبشير اللبنانيين بها لم يعد وضعه الشخصي بخير. تدهور كما الليرة التي شُبّه له وللكثيرين أنّه أحسن إدارتها. وفيه ينطبق المثل المعروف "حين تقع الفريسة يكثر الذباحون". هكذا انتهى عهد سلامة. رجل وحيد ينزل عليه ضيوفه على قلّتهم من السماء لتمضية أوقاته معهم. وقعت عليه عقوبات ثم صدرت بحقّه مذكرات توقيف من الأنتربول، وانتهى مساره موقوفاً في قصر العدل، وهذا بذاته، بغضّ النظر عمّا سيصل إليه التحقيق معه، إدانةٌ سياسية وشعبية لحقبة رياض سلامة قبل أن تكون إدانة مالية، ووضعُ حقبة سياسية كاملة في قفص الاتهام بالأسماء والخيارات.
تقول الرواية إنّ سلامة نال تطمينات بأنّ القضية لن تصل إلى حدّ التوقيف، وإنّ القاضي سيستجوبه ثم يتخذ قراراً بتخلية سبيله. لم يظنّ أنّ توقيف وارد. في المقابل، لم يكن ممكناً تغيّبه عن الدعوى القضائية، فلو حدث هذا لصدر قرار تعقّب بحقّه وهو مقيم في لبنان وممنوع من السفر. بالمعنى السياسي وتفسيراته، قرأ محللون قرار التوقيف على ذمّة التحقيق على أنّه محاولة لإسدال الستار على آخر معاقل الحريرية السياسية في لبنان، لكأنّ هناك منحى جديداً وتركيبة جديدة يستوجبان إزاحة سلامة وتصفية الحسابات معه، والتخلّص من عبء مرحلة طويلة هندّس خلالها سلامة مالية الدولة، وكان الشاهد على تفاصيل سياسييها المالية بعد الحرب وبدء تطبيق اتفاق الطائف، إذ تولّى دور المهندس المالي لمستقبلهم السياسي. حامل أكبر عدد من الأوسمة وشهادات التقدير والدكتوراه الفخرية لم تسعفه معلّقات جدرانه، ولا خبايا خزائنه السرية وشيفرة الأرقام والملفات التي احتفظ لنفسه بها. بتوقيفه اهتزت أسماء بارزة، وساورها القلق مما يخفيه الرجل من حقائق وأرقام ومساعدات وهندسات مالية. للحجاج بن يوسف الثقفي مقولته الشهيرة "رأيت رؤوساً قد أينعت وحان قطافها". توقيف سلامة يفترض أن يوصل إلى نتيجة كهذه مع أنّ حدوثها متعذر في لبنان. الذي يقع لن يجد من ينتشله أو يسعفه بكلمة تضامن أو بموقف مهما علا شأنه. "فرعون" المال والسلطة انتهى خلف القضبان. تفاصيل بقائه أياماً او شهوراً لم تعد شأناً مهمّاً، والأهمّ من التوقيف هو الجرأة في التوقيف، واستكمال الإدانة لحقبة كان سلامة آخر أعمدتها التي هوت. هي كلمة سر خارجية ربما وصلت أصداؤها إلى لبنان. أوقف سلامة. خطوة مُنبئِة بالمستقبل. وللحدث تتمة.