خلال الاسبوع الماضي، أثارت قضية الملياردير الروسي بافل دوروف فضول الرأي العام العالمي، وطرحت موضوع رجال الأعمال ودورهم في الصراعات الجيوسياسية المتعددة المستويات، في عالم يشهد مزيداً من الدمج الاقتصادي والسياسي من جهة، وانتقالاً من عالم أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة إلى عالم متعدد الأقطاب من جهة ثانية.
فقد أوقفت السلطات الفرنسية الملياردير الروسي في مطار باريس بعدما حطّت طائرته الآتية من أذربيجان على أرض المطار. التوقيف جاء نتيجة تهمة موجهة إلى دوروف لكونه مالك منصّة تلغرام التي أطلقها قبل عدّة أعوام. وفحوى التهمة تسهيل المنصة أعمالاً غير شرعية وأعمالاً إرهابية بحجة رفض دوروف التعاون مع السلطات الفرنسية وتطبيق المعايير التي تفرضها بغية تأمين سلامة استخدام نظام الرسائل. وعزا دوروف رفضه إلى ضرورة احترام معايير الخصوصية للمستخدمين، وفقاً لمعايير حرية التعبير والحرية الشخصية المطبّقة في الغرب.
ثمّة مراقبون وضعوا ما جرى في إطار التوتر بين فرنسا وروسيا على خلفية موقف باريس الداعم لأوكرانيا في مواجهة روسيا، ودعم موسكو عدداً من الدول الأفريقية مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وغيرها للخروج من دائرة النفوذ الفرنسي، علماً بأنّ المسؤولين في الغرب ينظرون إلى دوروف وتلغرام على أنّهما واجهة للكرملين وأداة للقوة الناعمة في الصراع الجيوسياسي بين باريس وموسكو والغرب وروسيا.
ملاحقة فرنسا دوروف جاءت بالاستناد إلى حيازة رجل الأعمال الروسي الجنسية الفرنسية، وبالتالي، فإنّ ملاحقته مبنية على أساس أنّه مواطن فرنسي خالف القانون الفرنسي. لكن ما لم يكن في حسبان باريس أن يكون لهذه القضية أبعاد غير محسوبة وتداعيات على علاقاتها مع طرف ثالث هو الإمارات العربية المتحدة التي تربطها علاقة وثيقة مع فرنسا تتجلّى في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية بين البلدين، وفي إطلاق فرع لجامعة السوربون وفرع لمتحف اللوفر الفرنسي الشهير في العاصمة الإماراتية. لكنّ توقيف دوروف سيؤدّي إلى حرد أبو ظبي على فرنسا، إذ تبيّن أنّ المواطن الروسي – الفرنسي يحمل أيضاً الجنسية الإماراتية وتربطه علاقة طيبة بالقادة الإماراتيين، وفي طليعتهم ولي عهد أبو ظبي الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، الذي يعتقد أنّه دخل في شراكات استثمارية مع دوروف.
هذا ما جعل عدداً من المراقبين يربطون بين اعتقال دوروف في باريس والأنباء عن عزم أبو ظبي على إلغاء صفقة مقدارها 20 مليار دولار أميركي مع فرنسا لشراء 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال، وفقاً للاتفاق الموقّع بين الإمارات وشركة داسو الفرنسية للصناعات الجوية والفضائية في العام 2021. ووفقاً لتقارير، أعربت الإمارات العربية المتحدة عن غضبها من اعتقال دوروف، معتبرة أنّ الاتهامات التي سيقت ضدّه هي ذات طبيعة سياسية. وعلى الرغم من إطلاق السلطات الفرنسية دوروف بكفالة مالية قدّرت بخمسة ملايين يورو، لم تُحلّ المشكلة التي اندلعت بين فرنسا والإمارات.
مراقبون يربطون بين اعتقال دوروف في باريس والأنباء عن عزم أبو ظبي على إلغاء صفقة مقدارها 20 مليار دولار أميركي مع فرنسا لشراء 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال...
وبرغم تخلية سبيله بكفالة، فإنّ المشكلات القانونية التي يواجهها دوروف لم تنته بعد. فهو لا يزال ممنوعاً من مغادرة فرنسا، وقد تؤدي الاتهامات الموجهة إليه إلى معركة قانونية طويلة. وفي الوقت نفسه، يبيّن قرار الإمارات العربية المتحدة الوقوف إلى جانب دوروف الشبكةَ المعقّدة للعلاقات الدولية والتأثير الكبير الذي قد يخلّفه اعتقال شخصية بارزة على الدبلوماسية العالمية.
والجدير ذكره أنّ دوروف ولد في العام 1984 في سانت بترسبرغ لوالد يحمل درجة الدكتوراة في اللغة الروسية، وسبق أن شغل منصب رئيس قسم فقه اللغة الكلاسيكية في كلّية اللغات بجامعة بطرسبورغ. كما أنّ والدته تعمل في الجامعة نفسها.
وكانت أسرة دوروف قد انتقلت في العام 1988 للعيش في إيطاليا حيث درس دوروف عامين في مدرسة بميلانو. وفي العام 1990 عادت الأسرة إلى روسيا حيث تابع دوروف دراسته وتخصّص في دراسة اللغات، ومنها اللغة الإنكليزية وتخرّج في العام 2006 حائزًا مرتبة الشرف في فقه اللغة الإنكليزية والترجمة، علماً بأنّه يتقن، إلى الإنكليزية، سبع لغات هي الفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية واللاتينية والفارسية، والروسية لغته الأم.
وقد بدأ بافل دوروف العمل على التطورات الأولى لنظام مبسط بهدف تبادل المعلومات والرسائل خلال سنوات دراسته، وأنشأ مكتبة يمكن من خلالها العثور على مواد وملخصات مهمة، وأطلق على الموقع اسمه "دوروف.كوم"، وأصبح المشرف الفني ومنشئ أكبر منتدى لطلاب جامعة بطرسبورغ.
بعد ذلك أطلق شبكة "فكونتاكتي" عقب التواصل مع صديقه فياتشيسلاف ميريلاشفيلي، الذي كان يدرس في الولايات المتحدة الأميركية. وقد دخل شقيق بافل، نيكولاي، شريكاً قبل الإطلاق الرسمي للشبكة في تشرين الأول 2006. وطوّر الأخوان برنامج المراسلات تلغرام، فأصبح متاحاً على متجر التطبيقات في آب 2013، وفي تموز 2024 بلغ عدد مستخدمي تلغرام 950 مليوناً في الشهر، وفي آذار 2024 قال بافل دوروف إنّ المستثمرين قدّروا قيمة المنصّة بنحو 30 مليار دولار.
وفي نيسان 2024، قال دوروف في مقابلة مع الصحافي الأميركي تاكر كارلسون إنّه يواجه ضغوطاً تمارسها عليه أجهزة الاستخبارات الأميركية التي تسعى للسيطرة عليه والوصول إلى أنظمة تطبيق تلغرام وقواعد بياناته، وهو ما رفضه. مع العلم أّن رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري مدفيديف كان قد وجّه اللوم إلى بافل دوروف لمغادرته الأراضي الروسية، "بسبب طموحه إلى أن يصبح شخصية عالمية وحبه للأضواء".