حين تزرع بستانًا أو حقلًا قرب بيتك، تصبحان جارين، يشرب هو من فنجان قهوتك صباحًا، وتزيِّن أنت بفاكهته أو خُضرِه مائدتَك. تعرف ترابَه حبَّة حبَّة. تحفظ أغصانَه عن ظهر قلب، غصنًا غصنًا. تجعل ثمارَه سُبحة صلاة، تتلوها أبانا خير وسلامَ شبع. وحين تقطِفه تكون كمن أمضى سهرَة عمر مع صديق عمر.
ولكن ماذا عن موسم قِطاف وحِصاد، والبستان بسعَةِ سهل، قُله سهلَ بقاع؟ ولو كان السَّهلُ كلُّه ملكَك؟ أنت وحدك. مهما تماهيتما، وتجاورتما، وتشاربتما قهوةَ صباح، أو تلاقمتما عافيةً. أنت وحدك. لا بدَّ تقطفه بالعين من بعيد. وتحصِده بمِنجل اللَّهفة إلى موسم وغلة.
هنا ذهبُ سنابل. هناك عناقيدُ كرمة. هنالك خضرةٌ تأتي إليها زرقة السماء لتلتقيَها خُلسةً عن حقيقة، وجهرًا على مرأى عين. إلى هذا السَّهل أدعوكمُ. فالمواسمُ وافرة... والغلال غلال.
جولة في عوالم فكرية وأدبية وروائية، لا يتَّسع لها بستان... بل تنبسطُ لها السهول بكل ما أوتيت من خِصب. جولة؟ قل رِحلةً مع مَن تسابِقُ أعمالُه سنَّي عمره، لتضاهيَها وتتجاوزَها وتَزيد. فالقلم لا يعرف عُمْقَه، ساعةَ الفِراق، عفوَك جبران... بل حين بالثلاثِ الأصابعِ يُمتَشقُ سيفَ أميرٍ في حضرة الكلمة.
عوالمُ؟ وما أكثرَها. هنا الثوب المرزكش. هناك الورقُ الضائع. هنالك التاريخُ الغامض. ومن فوقُ فوقُ إمَّا وِديانُ قداسةٍ، وإمَّا قدِّيسون. هُنون القاماتُ العالية، ومدنٌ تسبِر أغوارَ الهناكات... وحين تعبُر إلى الهنالكات، تغدو كلُّ حبةِ تراب، كلُّ واقعة، كل لفتة إبداع، كلمةً في قاموسٍ، اسُمه ألكسندر نجار.
المحامي، حامل شهادة دكتوراه في إدارة الأعمال... الكاتب الكاتب شاعرًا، ناثرًا، روائيًّا، مسرحيًّا، سينمائيًّا، صحافيًّا، لبنانيًّا أصيلًا، وفرانكوفونيًّا بطعم أجبان فرنسا الألف، ومترجَمًا إلى ثلاثَ عشرةً من لغات الأرض... الدكتور ألكسندر نجار.
طالعتُه بسؤال لم يخطر على باله: يغلب على عائلات لبنان نسبة إما اسم البلدة والقرية والمدينة (تنوري، عشقوتي، بكاسيني، ديراني) التي انتقلوا منها إلى أخرى، وإما اسم المهنة التي اشتهروا بها (نجار، صباغ، لحام). من تنتسب عائلاتهم إلى أماكن هم إجمالًا موارنة أو شيعة. ومن تنتسب عائلاتهم إلى مهنة... هم سنة أو من الروم الأرذوكس. لمَ ألكسندر نجار ماروني؟
ينبذ ألكسندر الطائفية، ولا يهتم إلا بالإطار اللبناني العام، لكنه يروي قصة عائلته، وهي أن الجد الأعلى للعائلة، وهو من آل دامياني، جاء من جزيرة كورسيكا ضمن حملة نابوليون بونابرت على مصر، ولم يكن محاربًا، إنما نجار. وحين حاصر الأمبراطور الفرنسي عكا، مرض كثر من جنوده، فوزعهم على المناطق القريبة للاستشفاء، وكان نصيب الجدّ بلدة دير القمر حيث أغرم بفتاة، وتزوجها، وبقي في الدير وأسس العائلة.
مؤلفات ألكسندر جازوت الأربعين، لعل الأغلى على قلبه "القاموس المشغوف بلبنان"، وهو كتاب وضعه بحبٍّ عن الوطن الذي ينتمي إليه، فمن ألف إلى ياء جمع فيه أماكن وشخصيات وأحداثًا، بعيدًا قدر الإمكان من السياسة، وتناولها بالشرح من منظاره هو، مما جعله يزداد حبًّا بلبنان، ولم ينسَ أن يعرِّج في القاموس على عادات وتقاليد لبنانية، وعلى القطار والمطبخ وسباق الخيل. حتى إن من قرأه من الفرنكوفونيين عمومًا، واللبنانيون من بينهم، أجمعوا على أن الكتاب يلخص روح لبنان.
بين صرامة أبٍ محامٍ مشهور، هو تينور في المحاماة، وحنان أمٍّ ذات عين رائية وعقل عارف، وقلب يقود حدسه إلى دروب النجاح... ألكسندر بكر لعائلة من ستة أبناء. كأني به عاتب والده القاسي، ولكن المملوء عاطفة وحنانًا. وكأني به شكر لوالدته حديقتها التي وسعتها له لتلعب فكانت "ميموزا". وهي رواية بسيطة كتبها في سن التاسعة، ومن ثم أخرى بوليسية حفظتها له الوالدة.
وأنشأ، في الثالثة عشرة، صحيفة كان يكتبها بخط اليد ويؤجرها لقراء من أقاربه ومعارفه، في مقابل بدلٍ مادي، ضمَّنها مسابقة يحظى من يفوز بها بجائزة، هي كتاب. أما مَن قاده إلى اعتناق الرواية فمصادفة مسابقة في باريس، حيث كان يتخصص في القانون، قرأ عنها في إعلان منشور على الطريق. شارك في تلك المسابقة نحو ألفي شخص، وكان هو من ضمنهم، وفاز بالجائزة الأولى، وقيمتها 30 ألف دولار أميركي. حتى كرَّت السُّبحة مذذاك، وتنكَّب الطفل الهاوي القراءة والكتابة، مسؤولية أكبر.
ولكن قبل هذا كله، كتب خواطر شعرية، لم يجمعها في كتاب أو ديوان، وهو إذ يضمِّن كتبه نفحات شاعرية، يرى أن الشِّعر يتطلَّب صفاء ذهن وهدوءًا، وتأملًا في الطبيعة، بخلاف الرواية التي تتطلَّب نفسًا طويلًا وتُكتب وفق نظام وسلوك معينين. وعنده أن قصيدة حبٍّ واحدة، توازي مجلدات.
يُفهم أن يكون أي إنسان، خصبَ الخيال، فكيف بكاتبٍ تنطبق عليه مثلًا مقولة موريس عواد "يا إيدي لحقي ع أفكاري". أكثر من أربعين عملًا في رصيده، ليست كلها خيالًا، بل يستند بعضها إلى أبحاث في التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع والعادات والتقاليد، فضلًا عن عمله في مجال المحاماة، وإلقاء المحاضرات. يدير وقته، وينصرف إلى أعماله، من دون إلهاء نفسه بتلبية مناسبات اجتماعية. يعمل في المحاماة طوال النهار، ويكتب ليلًا، وقد أصبحت الكتابة لديه جزءًا من شخصيته. قلمه الذي ما زال يكتب به قبل أن يطبع نصوصه على الكومبيوتر سيَّال، وقادر على ترجمة أفكاره سريعًا.
توزَّعت موضوعات أعماله على أربعة أبواب: الرواية الرواية؛ والرواية التاريخية، وأبطالها إما معروفون، وإما منبوشون من نسيان وقد عمَّم صورهم كمطلوبين إلى عدالة؛ وما يشبه السير الذاتية لشخصيات أدبية أو سياسية، ولا سيما منها قادة كبار؛ والفانتازيا التي استقت من علوم العصر إلى خيال أبعد.
روايته الأولى التي نال عنها جائزة، "دروب الهجرة"، تناولت موضوع الشركس المسالمين الذين لم يرسوا على بر في وطن، بفعل الاضطهادات والمضايقات.
بروز أمين المعلوف، عالميًّا، مثلًا، حفزَّه أكثر على الكتابة، ليقتدي به، خصوصًا بأسلوبه الذي جمع بين التاريخ والخيال، علمًا أن ألكسندر بدأ بالكتابة قبل أن يشتهر معلوف. يختار موضوعات رواياته، إما تأثرًا بصورة، وإما من تأثير ثقافة أبيه فيه. وفي الرواية التاريخية، سواء عن فينيقيا أو أثينا أو رواية بيروت، أو حصار صور... كان مجردًا وموضوعيًّا، خصوصًا أن التاريخ المكتوب كثيرًا ما يكون متحيِّزًا، وما على المؤرخ أو الباحث إلا أن يوغل في البحث أو يُعمل المنطق للوصول إلى الحقيقة، فاستطاع ألكسندر أن يفصل بين هواه وانتمائه والحقيقة المجردة.
في كتابه "حصار صور" استقى الموقف اليوناني من مصادره لأن من رافقوا الإسكندر في حملته تلك دوَّنوا كل شيء، وما زال محفوظًا إلى اليوم. لكن الموقف الصُّوري بعدما دُمِّرت صور ولم يبقَ منها أثر، سمح لنفسه بأن يعود إلى لغة ذاك العصر ومواقف الصوريين والفينيقيين، ليؤلف نصًّا مقابلًا.
نشأ على كتب تاريخ في مكتبة المنزل، مما يفسر شغفه مثلًا بالكتابة عن شارل ديغول، فأضاف الكاتب اللبناني إلى سيرة القائد الفرنسي، بل قل العالمي التاريخي المميز، الكثير، علمًا أنه أضاء على سنوات إقامته في لبنان، كضابط بين العامين 1941 و1943، في كتابين. ومن هذا الكثير وثائق، بينها عقد إيجار منزله، وإهداءان لراهبين يسوعيين على كتابين ألَّفهما ديغول في لبنان.
ومثل ديغول، أتى على أدولف هتلر والنازية، في كتابين: "برلين 1936"، وألعابها الأولمبية الشهيرة، و"هاري وفرانز"... كأني به مشغوف بأوروبا التي كانت ذات يوم تعدُّ قارة العقل. وكأني به يرى أن استنهاض أفكارها وقيمها والإضاءة على مساوئها، ردٌّ على ما أضحت عليه اليوم، قارَّة تابعة لقوة عظمى هي أميركا.
عمل ألكسندر نجار كثيرًا على جبران خليل جبران، واقتفى أثره بين لبنان وبوسطن وحتى في المكسيك، واكتشف، بعد أقل من مئة عام على غيابه، جديدًا غير معروف، إضافة إلى إضاءته على سبب عدم عودته إلى لبنان، وهو سبب قضائي.
في كتاباته منحى ديني روحاني، من رواية قاديشا وادي القديسين، إلى اختيار يوحنا المعمدان شخصية للكتابة عنها، والأب الطوباوي يعقوب الكبوشي، منحى نابع من كونه مؤمنًا ممارسًا، ومن إعجابه بالشخصيات والأماكن التي اختارها.
ولم ينسَ الموسيقى والفلك وموضوعات أخرى ولا سيما منها ما يتعلق بأدباء فرنسيين كبار، من مثل بودلير وفلوبير، أو بصموئيل بيكيت الإيرلندي العبثي...
وضع تجربته في الحياة في كتاب "مدرسة الحرب"، ولعل أهم عبرها، أين يجد الإنسان سعادته...