في ورشة تدريبية تحت عنوان "الصحافة الحساسة للنزاعات"، سألت نازحة سورية المدرب اللبناني لماذا تكرهوننا؟ يبدو المشهد تماماً كما حدث مع الشعب الأميركي بعد أحداث 11 أيلول. سؤال مكرّر، ولكنه يؤكد عدم وعي طبيعة الصراعات الخارجية بالنسبة إلى شعوب الدول المنغمسة في شؤونها الداخلية وشجونها من دون اهتمام بما هو خارج الحدود وتأثيره في مسار الأمور ومصير الأنظمة.
كيف تشرح لصبيّة في مقتبل العمر أنّ قسماً كبيراً من اللبنانيين لا ينظر إلى قضية النزوح السوري إلّا من بوابة قوات الردع العربية السورية أو حاجز المخابرات. كيف يمكن أن تعيد سرد الأحداث اللبنانية من حيث يقف الفريق الذي كان في مواجهة "الوصاية السورية على لبنان". لبنانيون كثيرون ما زالوا يروون قصص اختفاء أبنائهم في السجون السورية، ويتمسكون بتلك الرواية ما داموا لم يعثروا على جثمان أو قبر جماعي ضمّ رفات أناس عديدين خطفت الحرب أرواحهم، ولكنهم لا يزالون في ذاك العمر الذين اختفى أثرهم فيه. ولا بد من لفت النظر إلى أنّ الحديث عن المقابر الجماعية تعدّه أغلب الأطراف اللبنانية محاولة نكء للجراح.
لم يحصل في لبنان أن خصصت السلطات المتعاقبة، حتّى تلك التي تمثّلت فيها كل الجهات المتحاربة، يوماً لتلاوة فعل الندامة أو للاعتذار من أهالي الشهداء المدنيين الذين دفعوا ثمن الحرب الأهلية، ولا حتّى من أهالي المتقاتلين المتقابلين الذين آمن كلّ منهم بأن وجوده في خطر، فتحالف حتى مع الشيطان ليحمي نفسه. مع العلم أن الحرب الأهلية كانت مسرحاً لتدخلات دولية عابرة للقارات وتدخلات إقليمية وحدودية.
رائحة الدم المنبعثة من الشاشات تلاحقنا بسؤال بسيط: مع من تقفون؟ مع القاتل أو مع المقتول؟
كان لا بد للمتدربة السورية أن تعلم أن نحو نصف الشعب اللبناني تظاهر مطالباً بانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، وهو ما تحقق، لكنه انسحاب لم يدم سوى 6 سنوات إذ توافد لاحقاً إلى لبنان عشرات آلاف النازحين السوريين منذ العام 2011 حتى بلغوا قرابة نصف تعداد الشعب اللبناني. هكذا باتت الصورة أكثر وضوحاً، كانت مطالبة بخروج عشرات آلاف الجنود السوريين فإذا بمئات آلاف النازحين السوريين يحلّون مكان الجنود حتى أن الكثير من هؤلاء النازحين سبق أن خدموا جنوداً في بلاد الأرز.
فهل يمكن طلب التسامح والترحيب ببساطة ممن فقد أحد أقاربه في مواجهة السوريين، أو يعتقد بأن السوريين خطفوا والده، أو أن إحدى قذائفهم المدفعية أحرقت منزل عائلته؟
هذه الأسئلة تفتح الباب أمام مسألة تعامل بعض اللبنانيين مع القضية الفلسطينية وما يجري اليوم في غزة على قاعدة "شو خصّنا؟ يصطفلوا". لقد دفع لبنان ثمن القضية الفلسطينية غالياً. فتح الجنوبيون بدايةً، وكل لبنان لاحقاً، البيوت لاستقبال الفلسطينيين الذي طردتهم آلة القتل الإسرائيلية من أرضهم. بعد كلّ مجزرة كانت ترتكبها عصابات الهاغانا في قرية فلسطينية من هنا أو في مدينة من هناك، كانت الحدود اللبنانية الجنوبية تشهد نزوح العشرات فالمئات فالآلاف. طال بقاء الفلسطينيين في لبنان وتحول وجودهم مع الوقت إلى لجوء ومخيمات. تقاعس العالم عن مساعدتهم. لم يكن الهمّ الدولي سوى إيجاد وطن قومي لليهود. ومصير ملايين الفلسطينيين هو الهجرة والذوبان، فكانت فكرة تحرير الأرض الفلسطينية بالمقاومة المسلحة، ثم وُلدت فكرة منظمة التحرير. قد يكون من المفيد قراءة التاريخ وتطورات تلك المرحلة وكيف انحرف مسار تحرير فلسطين ليصبح تدخلاً في الشؤون اللبنانية بشكل أو بآخر، وكيف تفلّت السلاح الفلسطيني وانتشر في المخيمات ثم تحول إلى ظهور علني في أغلب المناطق اللبنانية، وهذا ما أدى إلى مواجهات مع الجيش اللبناني لم ينجح اتفاق القاهرة في العام 1969 في لجمها أو في الحد منها. كذلك الأمر بالنسبة إلى اتفاق ملكارت في العام 1973 وصولاً إلى 13 نيسان 1975 موعد انطلاق شرارة الحرب الأهلية في حادثة بوسطة عين الرمانة الشهيرة، وكان الفلسطيني طرفاً فيها. حجبت المواجهات اللبنانية الفلسطينية ما كانت ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين في الداخل والخارج. انغماس المنظمات العسكرية الفلسطينية في اللعبة الداخلية اللبنانية حال دون تبني لبنانيين كثر أصل القضية، قضية فلسطين وحق العودة وتقرير المصير. خوف بعض اللبنانيين من أن يخسروا أرضهم لمصلحة اللاجئين الفلسطينيين قضت على كل أمل بالتعاطف والتضامن. حين يصبح وجودك مهدّداً لا يعود هناك من مجال لتبني قضايا على حساب قضيتك. يصبح البقاء في الوطن أهم من بقاء أي طرف آخر فيه، فكيف إذا كان على حساب الوجود.
يصعب أن تطلب، اليوم، من بعض اللبنانيين أن ينظروا إلى القضية الفلسطينية نظرة إنسانية، أن يتخطّوا تاريخاً من المواجهات مع مشروع الوطن البديل، أن يتناسوا مشاريع حزبية قامت على فكرة مواجهة الغريب ولو توفر المواطن المختلف. ليس من السهل في بلد سلطته تمثل الأحزاب التقليدية والمليشيات التي قامت وتطورت ونمت وفق رؤية تعتبر السوري أو الفلسطيني عدوك، أن تطلب من شعبه أن يرى الطفل الفلسطيني الغارق في دمائه، أو الأم الباكية بحرقة على مقتل طفليها وقبلهما زوجها ووالدها وأمها. عائلات بأكملها أُبيدت ولم يبق منها سوى أفراد وكأنّهم بُتروا كأطراف الأطفال الذين تطالعنا صورهم، قبل حجبها، على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. لبنانيون بالآلاف، بل بعشرات الآلاف، لا ينظرون إلى معاناة الفلسطينيين نظرة متعاطفة، ولا يعيرونها اهتماماً، بل يتجاهلونها كأنها مرض معدٍ، وكأنهم يخافون من أن يخسروا كل ما بنوا وعيهم عليه من عداء، أو كأنهم يخافون مواجهة المصير نفسه، فتصبح الضحية أسهل الخصوم، عن وعي أو عن غير وعي.
هو خيط رفيع بين الوطنية والتعصب، بين الانتماء والتعصب، بمعزل عن الواقع اللبناني المأسويّ والانقسام الحاد حول جدوى جبهة الإسناد أو عدمها، حول السخرية والاستخفاف أو التبني والمغالاة، من دون جلد ذاتنا حول من يتحمّل مسؤولية الأزمة المالية أو انهيار المؤسسات، رائحة الدم المنبعثة من الشاشات تلاحقنا بسؤال بسيط: مع من تقفون؟ مع القاتل أو مع المقتول؟