اختلّ الميزان، وهو مختل أصلاً، بين المقاومة في لبنان وقوات الاحتلال الإسرائيلي. ميزان الرّدع الذي كان متوازناً إلى حدّ ما قبل طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على غزة، تعرّض لضربة قوية، بل لضربات لم ينجح حزب الله حتّى الساعة، في إعادته إلى سابق عهده. 

قبل السابع من تشرين الأول من العام الماضي، أي قبل طوفان الأقصى، قدّم لبنان إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، نحو 30 ألف شكوى ضدّ خروق جوية وبرية وبحرية للسيادة اللبنانية في مخالفة واضحة للقرار 1701 الصادر في آب من العام 2006. هذه الاعتداءات الإسرائيلية على السيادة اللبنانية لم يَحُلْ ميزان الردع دون حصولها، ولم تنجح الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو الأسرة الدولية في الحدّ منها أو منعها، لا سمح الله. 

وإن كنّا نتحدث عن القرار 1701 الصادر في العام 2006 وعدم امتثال إسرائيل لما جاء فيه، فهذا لا يعني أن إسرائيل التزمت سابقاً أيًّا من قرارات الشرعية الدولية المتّصلة بالصراع العربي الإسرائيلي منذ نشوء الكيان واغتصابه أرض فلسطين، وهي التي بدا كأنّ "الفيتو" الأميركي في مجلس الأمن إنما وُجد من أجلها. وإلّا فكيف يمكن فهم أنّ بيانات الأمم المتحدة الصادرة عن مجلس الأمن إنّما تؤكّد بشكل ببغائي حرفي "أهمية تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط، استناداً إلى جميع قراراته ذات الصلة، بما في ذلك قراره 242 (1967) المؤرخ 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1967 و 338 (1973) وقراره المؤرخ 22 تشرين الأول /أكتوبر 1973 و 1515 (2003) وقراره المؤرخ 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2003". مع العلم أنّ إسرائيل هي التي ترفض الالتزام بجميع هذه القرارات. 

فعلاً إنّها الشرعية الدولية التي نطالب بها وبحمايتها وبقراراتها...
قد يكون من المناسب التذكير بوجود اتفاقية للهدنة بين لبنان وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة وإشرافها، تم التوقيع عليها في جزيرة رودس اليونانية في 23 آذار 1943، وهي تلفت إلى تثبيت الحدود المرسّمة عام 1923 بين لبنان وفلسطين. علماً بأن هذا الترسيم اقتطع عدداً من القرى اللبنانية لمصلحة فلسطين حينذاك، ومنها قرى إبل القمح وصلحا وهونين والمالكية والنبي يوشع وقَدَس وطبريخا. وفي العام 1967، احتلّت إسرائيل مزارع شبعا وواصلت قضمها للأراضي اللبنانية في المنطقة، وأقامت المستوطنات والمواقع العسكرية والمنتجعات السياحية داخل الأراضي اللبنانية المحتلة، ولا تزال هذه المواقع والمنشآت إلى اليوم في مخالفة للقوانين والقرارات الدولية ذات الصلة. ولم تكن إسرائيل لولا المقاومة وضرباتها لتعلن في العام 2000 أنّها نفّذت القرار 425 الصادر في العام 1978، والذي دعا إلى: "الاحترام التام لسلامة لبنان الإقليمية وسيادته واستقلاله السياسي ضمن حدوده المعترف بها دولياً" مناشداً إسرائيل "أن توقف فوراً عملها العسكري ضد السلامة الإقليمية للبنان، وأن تسحب على الفور قواتها من جميع الأراضي اللبنانية". وأهمُّ من هذا طلب المجلس في قراره من "السكرتير العام أن يقدّم تقريراً إلى المجلس خلال 24 ساعة حول تطبيق هذا القرار". لكنّ الأمر استغرق بدل الـ 24 ساعة نحو 22 سنة. فعلاً إنّها الشرعية الدولية التي نطالب بها وبحمايتها وبقراراتها. 

يخرج علينا في لبنان من يصوّر إسرائيل كما لو أنّها معتدى عليها، أو كما لو أنّها تدافع عن نفسها، مع العلم أنّها هي من يحتلّ أراضي لبنانية وليس العكس، وباعتراف الشرعية الدولية التي ينادي بها هؤلاء أنفسهم. يتجاهل البعض الآخر وجود مطامع إسرائيلية بالمياه اللبنانية، وحتّى بقمم جبل الشيخ حيث تقيم إسرائيل أهمّ قاعدة تجسس عسكرية في الشرق الأوسط. ويدّعي فريق أنّه يناصبها العداء، ولكنّه يعاجل الموقف بكلمة "ولكن"، معدداً سلسلة من المواقف التخفيفية التي تضع إسرائيل في نهاية المطاف في أسفل لائحة الأولويات، مقدّماً عليها كلّ المشكلات وأسباب الخلاف الداخلية، في مقاربة تخالف كلّ قول عن أهمية الوحدة الداخلية في مواجهة التحديات والاعتداءات الخارجية. 

بالفعل اختلّ الميزان، وبدا كما لو أنّ لبنان بات الأضعف في مواجهة إسرائيل المدعومة من الخارج، وليس هنالك أضعف منه سوى غزة التي لا ينظر إليها العالم إلّا من نافذة الاحتلال وعبره. إسرائيل التي تتحدّى العالم، وعليه أن يخضع لأهوائها، وأن يخاف من جنونها في حين يجب أن يقع اللوم والمسؤولية، تلقائياً، على من هم في مواجهتها. وما حملات التخويف من تبعات ما يحصل على ألسنة المسؤولين في غير مكان وفي لبنان أيضاً، سوى محاولات لإحباط كلّ منطق مقاوم. وتتحول شعارات الحرية والسيادة والاستقلال إلى مجرّد أدوات في خدمة أجندات لا علاقة لها بمواجهة الاحتلال الحقيقي المتمثّل بالعدو الإسرائيلي. 

اليوم، لا بدّ من اللجوء إلى وسائل دفع لترميم التوازن أو لتحقيقه على نحو يحول دون تفلّت الأمور من عقالها. لم ينجح فيلم "الهدهد" الذي صوّر المواقع الإستراتيجية الإسرائيلية في منع العدو من توسعة منطقة عملياته. ولم يحُلْ نشر فيلم "عماد 4" في رسالته التحذيرية دون الذهاب إلى مواجهة أوسع. بل دفع هذا كله بالعدو إلى المزيد من العنف الذي وصل إلى مرحلة استهداف المدنيين من دون خجل أو تردّد. فإن كانت المشاهد لم تنجح في تحقيق الهدف الردعي فمن المرجّح أنّنا سنشهد استخداماً لوسائل أخرى من دون عرض مسبق لماهيّتها، أو أنّنا سنشهد مفعول صواريخ أنفاق "عماد" باستهداف المواقع التي صورها "الهدهد". وإلّا فإنّ الرّدع أصبح من الماضي، وبالتالي بات لزاماً علينا الإقرار بخسارة خيار المقاومة وتبنّي خيار الإذعان للشروط الدولية التي، بشكل أو بآخر، ليست سوى مطالب العدو الإسرائيلي وما يخدم مصلحته. ولا بأس في التخلي عن شعارات البطولة والعنفوان والتحدّي التي درجنا عليها في أناشيد أحزابنا على مختلف مشاربها وتوجهاتها، والاكتفاء بمقولة بسيطة بالمحكية: "شو وقفت عليي؟".