قصيدتي هي امرأتي الأولى والأخيرة، في القصيدة والحياة... لأنَّها من جميع النِّساء خصلة شعر وغُرَّة ولفتة وابتسامة وخصر وقوام ومشية ودلع وغنج وإغواء وحضن ومتكأ وكتف... وصلاة جسد أقيمها في معبد الروح كل لحظة.
كان هذا جوابي عن المرأة في حياتي.
ألا تحتاج هذه القصيدة الأنثى إلى مساحيق وغواية كي تسطع؟ قلت: تبقى القصيدة. هي الأنثى، سواء كتبها الله، أو كتبها شاعر. وإذا قصدت بعض من يكتبن بتنانيرهن أو بالديكولتيه... فهنَّ حال اجتماعية لا تنحصر بالشعر فحسب. أنَّى تتلفت ترَهُنَّ. في السياسة والإعلام والسينما والمسرح والتلفزيون. وفي "المعاملتين" أيضًا، ولا يتطلب منك الأمر سوى معاملة واحدة... إذا "فَتَحَتْ نفسك" على أيٍّ منهن.
وحين سئلت عن ثقافة الشاعر، قلت: كلَّما أوغل الشاعر في الثَّقافة والمعرفة والفنون، أضاف جناحًا إلى قصيدته، فتمعن في التحليق به إلى ما فوق السَّماء السَّابعة. تبقى القصيدة هي السَّفينة والأشرعة، وربَّانها والبحر، واتِّجاهها والرياح...
المرأة هي قصيدتي في القصيدة والحياة
وماذا عمَّن أوَّل من لفتته تجربتي في الكتابة؟ قلت إنَّ ثمة شخصًا وعاملًا أثَّرا فيَّ أكثر من غيرهما: أمِّي التي لم تكن شاعرة، بل امرأة بسيطة تحب أولادها. وهي التي تلوتُ عليها أولَ قصيدة كتبتُها، لا أبي الشاعر. فقالت لي بعفويتها وفطريتها وحدسها: "أودُّ أن تحظى يومًا ما بمكانة جبران خليل جبران". أما العامل فهو المبدأ الفكري الذي أؤمن به، إيماني بربي: خلِّ عينك على أوَّل نقطة داخل المستحيل، وإلَّا بقيت تافهًا وأسكنتَ وطنك والكونَ في التفاهة.
وإذ لاحظ شاعر صديق أنَّني غزير الإنتاج شديد، سأل هل يجب أن يطبع الشَّاعر كل ما كتبه ليكون هذا الكلّ بمنزلة سيرة ذاتيَّة كاملة؟ أم أنه يجب أن يختار ما يمكن أن يتشاركه والقارىء؟ أجبته أنَّني أحبُّ أن أنشر كلَّ ما أكتبه، بعد غربلة ذاتيَّة. قد لا تكون غربلة نقدية. عُدَّها غربلة عاطفية. لأنَّني أريد أن أنشر وأنا على قيد الحياة، ولا أحبَّ أن يُنشرَ بعد موتي، ما يقال إنَّه وجد في درج أو في ذاكرة كومبيوتر. لذا أستبق هذا الأمر، بتحديد ما ينبغي نشره لي، إذا ما توفَّاني الله فجأة، لأنَّني واعٍ بما أريد.
وإذ يتكرر السؤال، كيف أوازن بين شاعريتي وميداني السياسي الذي يمكن أن يقيم حواجز بيني وبين الجمهور؟ يتكرر الجواب، مع إضافات وتوضيحات. فمن يريد الخلط بين موقفي السياسي وشاعريتي، حرٌّ، إما افرنقاعًا عني، وإما رفضًا، وإمَّا حتَّى معاداة. كنت في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، وكانت يمينية الهوى، خلال الحرب، أجمع الطُّلاب زملائي على أغنيات زياد رحباني ومارسيل خليفة اليساريَّة، لأنَّني كنت وما زلت أحبُّ الجمال، من حيث أتى.
وتعليقًا على قصيدة لي بالمحكية اللبنانية "مَسْكون بِحالِةْ شِعِرْ/ خيفان موت مْن الشِّعِرْ/ ويموت مِنْ قَهْرو الْحِبِرْ/ ويفوتْ عَ الْكِلْمي... قَبِرْ"، سئلت: إلى أي مدى هذا الخوف أعطاني الحياة، وهل الطفولة التي فيَّ هي السبب الفعلي أنني كثيرون في واحد؟ فأجبت: لم أخف يومًا إلَّا من ألَّا أكون على قدر ما هو منتظر مني. تلك الرباعية التي بها استشهدت، كتبتها ذات ليلة من ليالي العام 1993، بعد دفق شعري، تمثَّل في سبع قصائد، جعلني أخاف. سألت نفسي: ما سرُّ هذا الدَّفق، هل أنام اللَّيلة، فلا أصحو غدًا؟ كانت لحظة تسآل عابرة، لا خوف. أمَّا طفولتي فهي التي تمشِّط لحيتي كلَّ يوم، وترأف بغضون وجهي، وتبقي جبيني ناصع العلو.
وكأني بالسائل السابق لم يرتوِ من إجابتي، فسألني على من أراهن لكي تستقيم الحياة، على الفن أم على المتلقي؟ ولإرواء عطشه، قلت إني حذفت من قاموس حياتي كلمة رهان. أكره السباق، وحتى لعب الورق. أنا من أهل الخيار، فأتحمله بشوكه قبل ورده. أراهن على الفن، بما هو جمال، وعلى المتلقي بما هو جميل. من خياراتي القليلة في الحياة، نوعية الناس والأشياء، لا كميتها. أعشق الصَّعب إلى حد المستحيل. وأؤمن بشجرة بورفيروس المتمثلة بهرم يبدأ بالله، كنقطة صغيرة في الأعلى، وكلَّما تدرجنا نزولًا اتسعت المسافة وقلَّت قيمة الناس والعناصر. فبعد الله، البشر العباقرة، ثم البشر العاديون، فالحيوان، فالنبات، لتنتهي قاعدة الهرم الواسعة بالجماد.
ولفتتني أديبة ناشرة إلى ما شهدته الساحة الثقافية، قبل الاجتياح الكوروني، من ولادات شبه يومية لمنتديات وتجمعات ولقاءات ثقافية، منها الجيِّد ومنها ما هو أكثر من سيِّئ. هل الشَّلل الذي حدث في الساحات الثقافية، جراء تلك الجائحة، أعاد دوزنة الحراك الثقافي أم حوّل مساره نحو العالم الافتراضي؟ وهل الأمسيات الإلكترونية المبرمجة تستطيع أن تخدم الثقافة؟
أجبت تلك الصديقة أن المهم، سواء كان مكانًا نطأه بالأرجل، أم بالعيون، الغايةُ من عنوان هذا المكان. حين تكون غاية أي منتدى نبيلة، أقصده زحفًا على قلمي، وحين تكون خبيثة، تهرب منه محبرتي من تلقائها. ثمة منتدًى إليه أنتمي ومنتديات أخرى أحبُّ وأقصد، لترسو سفينتنا على شاطئ الأدب، متجاوزة كلَّ عتمة، بقنديل عطاء ومحبَّة وحكي، وحبر أبيض...
وكان سؤال الناشط الثقافي عن تقويمي للساحة الثقافية في لبنان، مرفقًا بآخر عن غياب النقد، وهل يُسمح للمتسللين تصدر المنابر؟ أجبته أن ليس أنا من يقِّوم السَّاح الثَّقافيَّة. المهمُّ أن أعرف مكاني فيها. هي مساحة حرِّيَّة، فيها من الـ"هيلا هو"، إلى "إنِّي أتهم". ولك أن تختار موقعك فيها. أمَّا النقد، فحين يحيد عن الأسس والقواعد والأصول والمنهجيَّة، يصبح ضربًا من ضروب العلاقات العامة، أو العلاقات المشبوهة. يبقى أن ليس أحد بعد، استطاع إقناع غراب بألَّا "يغنِّي".