حضر الموفد الأميركي آموس هوكستين على عجل إلى لبنان بعدما ارتفع الصراخ في إسرائيل تبرّماً من حالة الانتظار المكلفة. "فليضرب نصرالله ويريحنا"، والكلام هنا، أصلاً، باللغة العبرية، وتردّد على ألسنة كثيرين وجدوا أنفسهم يعيشون بين صوت صفارة إنذار وصوت انفجار مسيّرة أو سقوط صاروخ من القبّة الحديدية ضلّ طريقه. في إسرائيل، ينتظرون الردّ ويخشونه. وفي الغرب، يخشون على إسرائيل من أن تتمدّد هذه الخشية وتشمل ما يهدّد دور الكيان الإسرائيلي في المنطقة.
لغة التهديد للبنان ليست جديدة، ولكنّها تأتي في وقت لم تفلح الدول الغربية، صاحبة التهديد، في كبح جماح الوحش الإسرائيلي المتعطّش للدماء، مع العلم أنّها تريد لخصمه أن يلتزم التهدئة من جانب واحد، وإلّا...
على مدى أشهر، ترك الغرب لإسرائيل أن تتحدّى كلّ القوانين الدولية والأعراف والمبادئ، وراح يبحث لها عن المبرّرات والأعذار لتستمرّ في قتل المدنيين في مجازر جماعية تحصد الأطفال والنساء، رغم كلّ النداءات الصادرة عن أهم المراجع العالمية والدولية والحقوقية والإنسانية. لم يجد الغرب نفسه معنياً بسوى تعليق تسليم بعض شحنات الذخائر إلى الجيش الإسرائيلي، ولو لبعض الوقت وعاد إلى تسليم الذخيرة المناسبة إلى القاتل من أجل أن يرتكب بها جرائمه مباركاً له أفعاله.
هوكستين في بيروت للقول إنّ الردّ على الإجرام الإسرائيلي المستمرّ بحق المدنيين من فلسطين إلى لبنان، وصولاً إلى اليمن فإيران، هو الذي يتحمّل مسؤولية إفشال المساعي الجارية لوقف إطلاق النار في غزة. كأنّه نسي أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة لم تندلع بالأمس، بل قبل نحو 10 أشهر، وأنّ الجبهة اللبنانية إنّما فُتحت لدفع إسرائيل إلى القبول بوقف لإطلاق النار، وهو ما لم يتحقق رغم جميع المحاولات السابقة، علماً بأنّ إدارته كانت مشاركة فيها. فهل سعت واشنطن فعلاً إلى وقف الحرب في غزة؟ أيعقل أنّها تريد وقف إطلاق النار وفي الوقت نفسه تزوّد تل أبيب بالمزيد من القذائف المتطورة والتي استُخدم بعضها أخيراً على ما قيل في جنوب لبنان؟ هل تسعى واشنطن فعلاً لخفض التوتر، وهي تعلن عن استقدام أساطيلها وبارجاتها إلى البحر الأبيض المتوسط لنجدة إسرائيل في حال تعرّضها لأيّ اعتداء؟
هل تسعى واشنطن فعلاً لخفض التوتر، وهي تعلن عن استقدام أساطيلها وبارجاتها إلى البحر الأبيض المتوسط لنجدة إسرائيل في حال تعرّضها لأيّ اعتداء؟
حسنٌ، لم تردّ المقاومة في لبنان على إسرائيل انتقاماً لاغتيال قائدها العسكري فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، والمدنيين الذي سقطوا معه، وفي مناطق لبنانية أخرى. ولم تردّ إيران على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران حيث كان في زيارة رسمية بناء على دعوة إلى حضور حفل تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب مسعود بيزشكيان. كما لم تردّ اليمن على استهداف ميناء الحديدة الذي أدّى إلى مقتل 10 أشخاص وجرح العشرات وخسائر مقدارها 20 مليون دولار. لم يحصل هذا كلّه إفساحاً في المجال للفرصة الأخيرة على حد قول من التقاهم هوكستين نقلاً عنه. أمّا إسرائيل فكان الأمر بالنسبة إليها "بيزنيس آز يوزوال"، أو بالأحرى، جرائم كالعادة. فهل يصدر موقف أميركي في هذا الخصوص محمِّلاً تل أبيب مسؤولية تصعيد التوتر عبر ارتكاب المزيد من المجازر التي قدّرت وزارة الصحة في غزة أن أكثر من 51 في المئة من الضحايا هم من الأطفال والنساء؟
وفيما نحن في حالة حرب على شكل مواجهات في جنوب لبنان غالباً، وخروق تصل إلى العمق أحياناً، عاد إلى الواجهة الحديثُ عن تطبيق القرار 1701، وهو القرار نفسه الذي خرقته إسرائيل منذ صدوره في 11 آب 2006، وكان رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أعلن عن 35 ألف خرق من جانب العدو لهذا القرار قبل شن تل أبيب الحرب على غزة في عملية السيوف الحديدية، رداً على عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023. ولا بدّ هنا من التنويه بأنّ العملية التي شنتها حماس حصلت على أراض فلسطينية، بحسب قرارات الأمم المتحدة نفسها، مستهدفةً مواقع استيطانية مخالفة للقانون الدولي، غير آبهة بالتحذيرات الأميركية والدعوات إلى تفكيكها. ولكنّها مواقف دولية غير قابلة للصرف ما دام الأمر يتعلّق بإسرائيل صنيعة الغرب وعقدة نقصه وخلاصة إحساسه بالذنب.
يدعونا الغرب من دون تورية أو مراعاة أو تمويه إلى الالتزام بصون أمن إسرائيل، هي إسرائيل نفسها التي تقوم بحرب إبادة جماعية في غزة والضفة وكلّ فلسطين. ولكن الغرب لا يرى من المشهد سوى النازحين الإسرائيليين من المستعمرات المقابلة للحدود اللبنانية الجنوبية. الخارج مصاب بضعف نظر حين يتعلّق الأمر بمليوني نازح في غزة دمّرت إسرائيل قراهم ومدنهم ومنازلهم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النازحين من لبنان. لم تجد العواصم الغربية نفسها معنية بممارسة الضغوط لتطبيق القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن في العام 1978 حتّى جاء التحرير في العام 2000. لم تسعَ هذه العواصم إلى إيجاد حلّ لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر، ما دام الأمر لا يصبّ في مصلحة إسرائيل. كما لم تجهد تلك العواصم لإيجاد سبيل لوقف الاستيطان والبدء بالعمل من أجل تطبيق قرار حلّ الدولتين الذي أقرّته الشرعية الدولية نفسها، ما دامت إسرائيل ترفض هذا القرار وتعمل من أجل تقويض جميع مفاعيله على الأرض.
يأتي الموفدون إلينا حاملين "فرمانات" بلادهم، فيجولون على المسؤولين يبلغونهم بما على لبنان القيام به ليتجنّب غضب "السلطان وحريمه". يصعد "المنادون" إلى المنابر الإعلامية وتبدأ عملية التهويل ونشر الإحباط وتصوير العدو إلهاً، وما علينا سوى أن نكون العبيد.
وقف إطلاق النار بالنسبة إلى الغرب، اليوم، لا يعني سوى البحث عن وسيلة جديدة للقضاء على الحق والحقيقة، وتالياً على قضية فلسطين والفلسطينيين، ومن ثم لتهشيم صورة المقاومة بصفة كونها حقّاً من حقوق الشعوب لتقرير المصير.
كانوا يقولون لكم إنّ الفلسطيني باع أرضه فأعرضتم عنه. اليوم، يقولون لكم لماذا يريد الفلسطيني الموت من أجل غزة، وأراكم تعرضون عنه. وكأنكم صدى ما يقال لكم، فتقولون.