يمثل التوغل الأوكراني الأخير في منطقة كورسك الروسية تصعيدا كبيرا في الصراع المستمر، مع تداعيات سياسية وعسكرية عميقة على كل من أوكرانيا وروسيا. هذه العملية التي بدأت في السادس من هذا الشهر، لم تفاجئ القوات الروسية فحسب، بل غيّرت أيضاً ديناميّات الحرب لأنها نقلت المعركة إلى الأرض الروسية.
تميّز هجوم أوكرانيا على كورسك بطبيعته غير المسبوقة: فهو أوّل خرق عسكري لحدود روسيا منذ العام 1941. وهو أول هجوم مضاد أوكراني عبر الحدود منذ الغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في 2014 واستؤنف في شباط 2022. وقد توغلت أوكرانيا نحو 30 كيلومترا داخل الأراضي الروسية، واستولت على نحو ألف كيلومتر مربع (والكرملن يقول نصف تلك المساحة) وسيطرت على 74 بلدة في المنطقة. وقد وصفت هذه العملية بأنها "حرب خاطفة بواسطة المسيّرات" ، مهّدت لها أوكرانيا بتعطيل الدفاعات والاتصالات الروسية والإفادة من عنصر المفاجأة. ويشير المحللون إلى أن استخدام أوكرانيا الفعال لقدرات الحرب الإلكترونية ساعد في إخفاء استعداداتها العسكرية، وفاجأ القوات الروسية. واللافت أنّ الحفاظ على السرية التشغيلية التي اعتمدتها أوكرانيا لهذه العملية يناقض أسلوبها في هجومَيها المضادَّين السابقَين اللذين أعلنت عنهما مسبقا، فنجحت في الأول وأخفقت في الثاني.
التداعيات على روسيا
وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتن العملية بأنها "استفزاز واسع النطاق،" وردّت الحكومة الروسية بإعلان حالة الطوارئ في مناطق كورسك وبيلغورود وبريانسك وإعلان نيتها إرسال "حملة لمكافحة الإرهاب." ويُبرز هذا الرد مستوى القلق داخل القيادة الروسية، لأن التوغل لا يهدّد السلامة الإقليمية فحسب، بل يقوّض أيضا سرديّة التفوق العسكري الروسي. وفي هذا الإطار، لم يتمكن التلفزيون الروسي من إخفاء ردود فعل النازحين من أهالي البلدات الحدودية في إقليم كورسك الذين انتقدوا الجيش قائلين إن الجنود تركوهم وفرّوا. وبدأت تظهر انتقادات لإدارة بوتن للحرب من مختلف الجهات، بما في ذلك طبقة الأوليغارشيّين القريبين من الكرملين، ومنهم على سبيل المثال رجل الأعمال البارز أوليغ ديريباسكا الذي دان الحرب على أوكرانيا علنا، مشيرا إلى تزايد المعارضة بين النخبة الروسية لطريقة إدارة الصراع وعواقبه على الأمن القومي. ويشير متخصصون في الشأن الروسي إلى أنّ هذا التوغل يمكن أن يكون حافزاً لاضطرابات عامة داخل روسيا، رغم قول الكرملين إن الهجوم قد أدى إلى زيادة إقبال المتطوّعين على الخدمة العسكرية.
الأهداف الاستراتيجية لأوكرانيا
تخدم عملية كورسك أغراضا استراتيجية متعددة لأوكرانيا، منها استعادة زمام المبادرة وتغيير صورة الجندي الأوكراني من مُدافع إلى مهاجم، وتعزيز صورة أوكرانيا وقدرتها على شن عمليات كبيرة خارج حدودها، وتالياً تغيير مفهوم فعاليتها العسكرية.
ومن الآثار العسكرية المباشرة للتوغل الأوكراني في كورسك أنه يجبر روسيا على تحويل قواتها من جبهة أوكرانيا الشرقية. وهذا يعني تخفيف الضغط على القوات الأوكرانية في الشرق وربما تغيير ميزان القوى في هذا الصراع. ومع ذلك، قد تجد أوكرانيا صعوبة في الحفاظ على المكاسب التي تحققت في كورسك. فرغم أن النجاح الأولي واعد، تكمن الصعوبة في قدرة أوكرانيا على مسك الأرض لفترة طويلة.
عجز روسيا عن صدّ التقدم الأوكراني قد يجبر الكرملين على النظر في جولة تعبئة عسكرية جديدة...
ماذا بعد؟
يراقب المجتمع الدولي عن كثب الوضع في كورسك، وما يمكن أن يرتّبه على الدعم العسكري الذي يرسله الحلفاء الغربيون لأوكرانيا. وقد يعزز النجاح غير المتوقع للتوغل الدعوات لزيادة هذا الدعم، بما في ذلك الأسلحة المتقدمة والدعم اللوجستي، إذ تسعى أوكرانيا إلى الاستفادة من زخم التوغل. في هذا المجال، يقول الرئيس الأوكراني فولوديمير زلنسكي إنه لم يطلع الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي الأخرى على الهجوم مسبقاً لكنّه أكد أنّ التوغل لم يكن ممكنا لولا الأسلحة التي أرسلتها الولايات المتحدة ودول الحلف.
يمكن أن يكون للتوغل الأوكراني في كورسك عواقب سياسية بعيدة المدى على الكرملين على المدى الطويل، أوّلها إلحاق الضرر بصورة بوتن. فالعملية كشفت نقاط ضعف في الجيش الروسي وجوّفت سرديّة تفوّقه، إلا إذا نجح بوتن في تنظيم تحرّك عسكري سريع يردّ الجيش الأوكراني إلى ما وراء الحدود.
ثمّ إن عجز روسيا عن صدّ التقدم الأوكراني قد يجبر الكرملين على النظر في جولة تعبئة عسكرية جديدة، على الرغم من مخاطر عدم الاستقرار الداخلي.
ولا شك أنّ في الكرملن وحوله صقوراً يؤيدون الحرب وينظّرون لها مثل ألكسندر دوغن الذي يعتبره الكرملن فيلسوفا ينسج للحرب غطاءً فكرياً فيما يعتبره الغرب يمينيا متطرفا ذا فكر يلامس الفاشية. وليس مستبعدا أن يرى هؤلاء "الصقور" أن القيادة الروسية فشلت في حماية حدودها وأنشأت نظاما عسكريا غير قادر على شن الحرب بفاعلية.
والواقع أن روسيا فشلت في محاولتها توسيع مساحة احتلالها لأراض أوكرانية في الأشهر الستة الماضية والاستفادة من تعثّر الهجوم الأوكراني المضاد الثاني. فإعادة احتلال 350 ميلا مربعا (560 كيلومترا مربعا) في كل تلك الحملة لا يمثّل نجاحا عسكريا للروس، خصوصاً في ظل خسائرهم البشرية التي تقدّرها أجهزة الاستخبارات الغربية بمئة وثمانين ألفاً.
يمكن أن ينتهي الصراع بين روسيا وأوكرانيا بمنتصر وخاسر وبفرض المنتصر شروطه على الخاسر. لكن من المرجّح أنّه سينتهي بالتفاوض. وقد تستخدم أوكرانيا الخرق في كورسك ورقة مساومة في المفاوضات.