في المجتمعات المتجانسة، تجسّد المواطنة علاقة الفرد بالدولة المضبوطة وفق عقارب القانون. الانتماء لا يرتقي إلى هذه المواطنة ما لم يقترن بالولاء، وهي ليست حتمية بمجرد امتلاك الجنسية التي تشكّل شرطاً ضرورياً، ولكن غير كافٍ (condition nécessaire mais pas suffisante) أمّا الواجبات المترتّبة على الفرد فهي عقوبات إذا لم يقابلها حقوق.

لا تصنيفات في المواطنة بين فئة أولى وفئة ثانية، وإلّا يتملّك الفرد شعوراً بالغبن والإجحاف والمظلومية والقلق، وهذا ما يفقدها علّة وجودها. لذا فإنّ المساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون، وتكافؤ الفرص، وتوفير الأمن والطمأنينة والاستقرار عوامل أكثر من ملحّة لتحصين المواطنة.

أمّا في المجتمعات المركّبة، فما ينطبق على الفرد ينطبق على المكوّنات أيضاً. لكن هذه الأخيرة أكثر تحسّساً لأيّ مظلومية أو عدم مساواة، وأكثر قدرة على التعبير عن امتعاضها من الفرد. هذا هو حال لبنان الذي شكّل الميثاق الوطني المتكامل مع الدستور المكتوب عشية استقلاله عام 1943 هيئة ناظمة لأسس الحكم فيه، وأعضاؤها هم المكوّنات الطائفية. فكان هذا الميثاق اتفاق شرف Gentlemen's agreement بين الطوائف.

في العام 1943، اتفق الأفراد ومكوّناتهم على تسليم أمرهم إلى دولة مدنية بما يشبه مواطنة "زواج مدني"، أي أنّ ما ينظّم العلاقة بين الطرفين عقد قانوني. لاحقاً أعطيت هذه العلاقة أبعاداً إنسانية إذ تحوّل "لبنان الملجأ" في زمن جبل لبنان التاريخي إلى "لبنان المختبر" مع لبنان الكبير. بلغ الأمر حّد توصيفه بـ"لبنان الرسالة" على لسان البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني . فسارع اللبنانيون على اختلاف مشاربهم الى التغنّي بهذا التوصيف، كأنّنا أصبحنا أمام مواطنة "زواج كنسي" حيث الزواج هو سر مقدّس sacret وليس سرّاً غامضاً secret .

أمّا اليوم، وبعيداً عن الكلمات المنمّقة وسياسات "تبويس اللحى"، فيشعر لبنانيون كثر بأنّهم أضحوا أمام مواطنة "زواج المساكنة" حيث لا عقد يجمعهم ولا سرّ مقدس ورسالة، بل مجرّد مساكنة تحت سقف الـ10452 بعدما تحوّل الدستور وجهة نظر، وأصيب الميثاق بـ"اضطراب ثنائي القطب" Bipolar.


يشعر لبنانيون كثر بأنّهم أضحوا أمام مواطنة "زواج المساكنة"

في الحقيقة، نحن إزاء نحر المواطنة منذ تكريس معادلة "الغالب والمغلوب" بعد انتهاء الحرب، ومع الانقلاب على "الطائف". يومذاك، استفاق المكوّن المسيحي على "فواجع" عدّة، منها:

* تدفيع قيادته ثمن الحرب في مقابل مكافأة القيادات الأخرى عبر حجز مواقع وحصص لها في الدولة، إذ نُفي القادة المسيحيون الأساسيون أو زُجّ بهم في السجون، وتمّت ملاحقة أبنائهم والتنكيل بهم، فيما كوفئ القادة الآخرون بالمناصب والمغانم.

* فبركة زعامات "بدل عن ضائع" أو نفخ أحجام بعضها.

* تعيين نواب ومن ثمّ "مغط" عدد أعضاء مجلس النواب من 108 إلى 128 من أجل الإمساك بقرار المجلس.

* مرسوم تجنيس "مسموم" ضرب الموازين الديمغرافية، إذ لم يقتصر منح الجنسية على مستحقّيها بل شمل غير المستحقّين بشكّل متعمّد وممنهج.

بعد العام 2005، وانسحاب الجيش السوري من لبنان وانقسام البلد بين "8 آذار" و"14 آذار" توهّمت الأخيرة أنّه عبر المشاركة في طاولة حوار عام 2006 يمكن إعادة ترميم المواطنة والعمل على العبور معاً إلى الدولة. إلّا أنّ سياسات "الثنائي" الشيعي وحلفائه منذ "حرب تموز" مروراً بالانسحاب من الحكومة وتعطيل البلاد فـ"7 أيار" ثم "القمصان السود" وقتال "حزب الله" في سوريا وصولاً الى "8 تشرين الأول"، جعلت جزءاً لا يستهان به من اللبنانيين يشعر بأنّ "الحزب" يقوّض العبور إلى الدولة ويفرض عليهم مواطنة "المساكنة"، ذلك بأنّ السائد في لبنان عدم المساواة بين جميع اللبنانيين، وعجز الدولة عن تأمين الأمان لهم، وانتهاك الدستور وسيادة الدولة على أرضها وحدودها، وفقدانها حصرية استخدام السلاح وامتلاك قرار الحرب والسلم.

هذا هو الأخطر اليوم، فاحتضان جميع اللبنانيين للمهجّرين من بيئة "حزب الله" عام 2006 لم يعد قائماً في العام 2024. لأنّ كلّ المكوّنات ممتعضة "بشكل أو بآخر" من ممارسات "الثنائي" وفائض القوة وعنجهية السلاح، لكنّ بعضها يجاهر بذلك، وفريقًا يعتصم بالصمت، أمّا الفريق الثالث فينكر الأمر، إلّا أنّ وقائع الأرض في مكان آخر:

* المكوّن المسيحي يجاهر برفضه "وحدة الساحات" التي فرضها "حزب الله" وفتح الجبهة في 8 تشرين الأول 2023 وهو قلق من انهيار الدولة - التي تشكّل في نظره الضمانة لوجوده ودوره في آن واحد- ومن السلاح الديمغرافي ومنطق "بدنا إنتاج".

* المكوّن السنّي الذي يواجه وضعية شائكة بعد تعليق رئيس تيار "المستقبل" الرئيس سعد الحريري العمل السياسي، يتخبّط بين دعم معظمه أيّ مواجهة مع إسرائيل خدمة للقضية الفلسطينية ولو على حساب سيادة الدولة وتكرار مشهدية السبعينيات، وبين مفاعيل "7 أيار" وهاجس تكرارها والجراح التي لم تندمل.

* المكوّن الدرزي الذي أجمع سياسيوه، وفي طليعتهم الزعيم وليد جنبلاط، على دعم "حزب الله" في معركته، وعلى الدعوة إلى فتح البيوت أمام النازحين، إلّا أنّ ذلك لا يخفي عدم استعداد بعضهم لتأجير الشقق لبيئة "الحزب" بسبب القلق الوجودي. لذا نشهد إشكالات، وإن تمّ إدراجها في خانة الحوادث الفردية فهي مؤشّر. آخرها طرد عائلة جنوبية شيعية نازحة من قبل أشخاص في بلدة غريفة الشوفية بعد يوم على استئجارها منزلاّ بمبلغ 900 دولار أميركي من دون أن نغفل حادثة مصادرة أهالي بلدة "شوّيا" الدروز راجمة لـ"الحزب" كانت تستخدم بلدتهم وتهدد سلامتهم في 6/8/2021.

ظاهرة رفض التأجير رغم المغريات المادية لا تقتصر على الهاجس الأمني بعدما استهدفت إسرائيل المدنيين في إطار اغتيالها كوادر عسكرية، بل على رواسب في ذاكرة المكوّنات جراء ممارسات "الحزب" الداخلية. لذا عوض لوم أو تخوين الآخرين، على "حزب الله" أن يجري قراءة نقدية لمساره وانعكاس هذا المسار على المكوّن الشيعي، ليس في ما يتعلّق بالعلاقة مع الخارج وبالهجرة إلى دول عدّة على سبيل المثال، بل بطبيعة علاقاته في العمق لا في الظاهر مع المكوّنات الأخرى. فالـ"حزب" مع مكوّنه الشيعي أشبه بمن يمارس طقوس الانتحار الجماعي حيث رب الأسرة يقتل أولاده وزوجته ثم ينتحر.