ما إن أعلن الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشيكيان عن تشكيلة حكومته حتّى قدّم محمد جواد ظريف استقالته من منصبه نائبًا للرئيس للشؤون الإستراتيجية، معربًا عن استيائه العميق من تشكيلة الحكومة المقترحة التي قدّمها مسعود بزشيكيان.
استقالة ظريف جاءت نتيجة عدم الأخذ باقتراحاته لأنّه أحد الـ19 وزيرًا الذين تضمنتهم التشكيلة الحكومية المقترحة، فقد كان هو أحد ثلاثة فقط من الأسماء التي قدمتها اللجنة التوجيهية المسؤولة عن اختيار المرشحين التي يرأسها هو نفسه، علمًا بأنّ عشرة من الوزراء المقترحين لم يكونوا على قائمة المجلس على الإطلاق.
وقد أبدى ظريف أسفه لعدم تمكّنه من تنفيذ آراء الخبراء في اللجان التي شُكّلت لاختيار أفضل المرشحين المحتملين أو الوفاء بوعوده بإشراك النساء والشباب والمجموعات العرقية في الحكومة، وأعلن أيضًا عن نيّته العودة إلى الأوساط الأكاديمية، واعتذر إلى الشعب الإيراني عن عجزه عن التعامل مع تعقيدات السياسة الداخلية.
استقالة ظريف صعّدت من الانتقادات الموجّهة من فريق الإصلاحيين الى بيزشيكيان، إذ ندّد رئيس جبهة الإصلاح آذر منصوري بالتشكيلة الحكومية، معتبرًا أنّه "لا ينبغي لأحد أن يتوقّع المعجزات من هذه الحكومة، خاصّة أنّ أكثر من 80٪ من سلطة البلاد في أيدي كيانات أخرى"، ملمّحًا إلى فريق المحافظين والحرس الثوري الإيراني، الذين تمكّنوا من تطعيم الحكومة بالعديد من مرشّحيهم أو المحسوبين عليهم، خلافًا لما كان متوقعًا من بيزشيكيان المحسوب على فريق الإصلاحيين، والذي نجح بأصواتهم.
أحد الانتقادات التي سيقت ضدّ الحكومة هو أنّ متوسط أعمار أعضائها 59 عامًا، وهذا ما يتناقض مع وعود بيزشيكيان بأنّ 60% من الوزراء سيكونون دون سن الخمسين حتّى تكون الحكومة أكثر شبابًا وديناميكية. والجدير ذكره أنّ معظم أعضاء الحكومة سبق أن شغلوا مناصب حكومية في العهود السابقة، وخصوصًا في عهد الرئيس الراحل ابراهيم رئيسي، مثل عباس عرقجي، الذي عُيّن وزيرًا للخارجية وهو كان نائبًا لظريف أثناء تولّيه منصب وزير الخارجية خلال رئاسة الرئيس السابق الشيخ حسن روحاني. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ اسماعيل الخطيب الذي عُيّن وزيرًا للمخابرات سبق أن كان مسؤولًا عن منطقة كرمان حين وقع هجوم إرهابي أسفر عن سقوط مئات الضحايا، أثناء مراسم العزاء التي اقيمت في كانون الثاني الماضي في الذكرى الرابعة لاغتيال الجنرال قاسم سليماني، عدا الانتقادات التي وُجّهت إليه بسبب اغتيال زعيم حركة "حماس" اسماعيل هنية. ومن الرموز القديمة الجديدة عبد الناصر همتي, وهو محافظ البنك المركزي السابق والمرشّح الرئاسي للعام 2021, والذي عُيّن وزيرًا للاقتصاد، إضافة إلى علي رضا كظمي الذي عُيّن وزيرًا للتعليم، علمًا بأنّه شقيق رئيس استخبارات الحرس الثوري الإيراني، وقد تركّزت مسيرته التعليمية على التدريس في المدارس الدينية.
لماذا سعى المحافظون إلى تقييد الإصلاحيين بدرجة كبيرة؟
ويبدو جليًا من غلبة المحافظين على المناصب الوزارية في حكومة الرئيس بيزشيكيان، والذين حازوا 11 من المناصب الوزارية التسعة عشر، علمًا بأنّ كثيرين منهم كانوا أعضاء في إدارة الرئيس ابراهيم رئيسي الذي كان محسوبًا على المحافظين، وفي عداد هؤلاء اسكندر مؤمني الذي عُيّن وزيرًا للداخلية وكان نائبًا لقائد الشرطة الإيرانية أثناء التظاهرات التي عمّت البلاد قبل عامين.
وقد لفت الكثيرون إلى أنّ مناصب وزير الخارجية والداخلية والاستخبارات قد تولّاها مقرّبون من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإمام علي الخامنئي، وهذا ما يعني أنّ الإصلاحيين، وعلى رأسهم الرئيس، سيكونون مقيّدي الحركة.
لكن، لماذا سعى المحافظون إلى تقييد الإصلاحيين بدرجة كبيرة؟ هنالك عاملان اضطلعا بدور كبير في هذا الإطار. الأول هو أنّ المحافظين اعتبروا أنّ ولاية الرئيس ابراهيم رئيسي قد بترت بمقتله في حادث الطائرة الذي وقع بالقرب من أذربيجان، وأنّ الرئيس الحالي يجب أن يستكمل ما كان قد بدأه الرئيس الراحل، خصوصًا من حيث حسم التوجه شرقًا، وملاحقة الفساد الذي كان قد استشرى في عهد الرئيس حسن روحاني، والذي كان ظريف أحد أعمدته. ويلقي الكثير من المحافظين شكوكًا حول بعض الرموز الذين كانوا محيطين بظريف آنذاك، والذين ثبت تعاملهم مع الاستخبارات الغربية، بمن فيهم علي رضا أكبري الذي كان نائبًا لوزير الدفاع أثناء رئاسة الرئيس محمد خاتمي، والذي ثبت تعامله مع المخابرات البريطانية وتزويده إيّاها معلومات نُقلت إلى الموساد الإسرائيلي ليستخدمها في اغتيال مسؤول البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زادة.
أمّا العامل الثاني فهو الصفعة التي تلقّاها الرئيس الإيراني المنتخب أثناء مراسم تنصيبه رئيسًا، والتي تمثّلت باغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران، واعتبرت صفعة إلى ما يمثّله بيزشيكيان من محاولة للانفتاح على الغرب على غرار محاولة الرئيس الأسبق حسن روحاني. والجدير ذكره أنّ الصفعة تلقّاها بالدرجة الأولى محمد جواد ظريف بصفته مهندس سياسات التقارب الإيرانية مع الغرب. مع العلم أنّ بيزشيكيان كان متمسكًا بخيار التقارب مع الغرب، وهذا ما جعله يصرّ على تعيين ظريف مستشارًا له، لأنّه لم يكن بإمكانه تعيينه وزيرًا للخارجية بسبب الحاجة إلى موافقة البرلمان الإيراني على تعيين كلّ وزير في الحكومة. وليس خافيًا أن رصيد ظريف كان قد ضُرب قبل سنوات نتيجة رهانه على التوصّل إلى اتفاق مع الغرب على البرنامج النووي الإيراني. ورغم نجاحه في ذلك بعد تلبية كلّ الشروط الغربية، فقد وجّه انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من هذا الاتفاق في العام 2018 صفعة قوية إليه بنى عليها المحافظون لضرب رصيده السياسي.
وإنْ كانت الضربة الأولى لم تقتل مسيرته السياسية بدليل اختيار بيزشيكيان له مستشارًا رئاسيًا، فإنّ الصفعة الثانية المتمثّلة بمقتل هنية في طهران، قد وجهت ضربة قاصمة إلى مساعي بيزشيكيان الرامية إلى التقارب مع الغرب، وإلى مهندس سياسات التقارب هذه محمد جواد ظريف. فبنى المحافظون على هذه الضربة ليحاصروا الرئيس المنتخب من خلال تعيين أشخاص من فريقهم، فأطاحوا عندئذ آمال ظريف بتكوين فريق من الممكن أن يرسم سياسات تتقارب مع الغرب. وعليه، كان لا بد له من الاستقالة.