أسئلة عن مسقط رأسي وماذا يعني لي، وعن بعض طفولتي فيها، وعن القراءة والتحدي الذي رفعه في وجهنا سعيد عقل، وعن الثقافة ومفهومها.
قال لي: مسقط رأسك شاتين (قضاء البترون) مهد الطّفولة ومسرح أحلام الفتوّة، ماذا حملت في أعماقك منها إلى جبيل حيث تقيم؟
فقلت: شاتين بالنسبة إلي ليست مجرد مسقط. هي جنة في قلبي ووجداني، منها "طُردت" إلى الحياة، ومآلي أن أعود إليها. هي فردوسي وحوائي. كلُّ شجرة من أشجارها، أو كرمة من كرومها، أو مسكبة من مساكبها، شجرةُ معرفة علَّمتني لغة الأرض والتراب والجذور، وشجرةُ "خطيئة" يرتكبني الشِّعرُ فيها، من دون عصيان أو ندم. وإذ هي حوائي، فكل ما أكتبه، يبقى لها، أميرةً بين القرى، جميلة ولا جميع الحسان، مزارًا للحنين والدَّمع. هناك، في كنيستها أصلِّي أهلي، وفي ساحة الكنيسة ألتقي أهلي، وعلى تلة سيِّدتها العتيقة أؤلف للوادي وللجبال بخورًا. وقد خصَّصتها، خلال الحجر الكوروني، بمجموعة قصائد، سأصدرها في ديوان قريبًا، عنوانه "شاتينْ... غِرِّةْ عِنَبْ عَ جْبينْ". وأمَّا ساحل بيبلوس فليس إلَّا همزة وصل بين مركب قدموس، وعرزال أبي في شاتين.
وماذا عن القراءة؟ سؤال أسمعه عشرات المرات. وجوابي الدائم أننا، في مراهقتنا والشباب، قبلنا تحديين للكبير سعيد عقل: الأول أن إقرأ، والثاني أن حاول قراءة 600 كلمة في الدقيقة، شرط استيعاب معناها.
وعليه، فأنا أقرأ مثلما أتنفَّس. مذ كان مِشوار الطَّريق بين بيتنا والسوق لا يستغرق سوى عشر دقائق، لتراه وأنا ممسكٌ بيدي أمِّي وأبي، يطول أكثر من ساعة، لأنِّي لم أفرغ بعد من قراءة "آرمات" المحالِّ. كأنَّ القراءة جزء من تكويني، وقد أضافت إليها طبيعة عملي شغفًا أكبر.
أقرأ كلَّ يوم ديوانَ شعر. أعيد قراءةَ كبار أحبُّهم، كمثل سعيد عقل وجوزف حرب. أجول، يوميًّا، على أكثرَ من خمسمئة صفحة متنوِّعة، قراءةً وتبحرًا واطِّلاعًا. تشدُّني كتبٌ تضيف إلى هوَسي بالحضارة والإنسان، أبعادًا وآفاقًا أوسع. في مكتبتي نحو عشرة آلاف كتاب. وعلى وسادتي، أقرأني في صمتي، لأنني لم أكتفِ.
وكيف أنظر إلى المعتقدات والحداثة، في ضوء الجمال؟
بسيط الجواب. فحين نتخطى معتقدات راسخة فينا، وننظر إلى الجمال كجمال، يصطلح الكون برمته. ثم إن ليس كل ما سُمِّي حداثة جديدًا، لأن ثمة عتيقًا في عمق أشعار الأساطير، مثلًا، لم نبلغ إليه بعد، ولن نبلغ. الأفكار هي نفسها، مذ عقل الإنسان، يبقى الأسلوب الذي يظهرها في قالب جديد.
مَنْ المسوؤل عن الانحدار الشعري الذي يواجهه لبنان اليوم؟ وما الطرائق التي يجب أن تعتمد لكي ننقذه؟
لا أدري لما افترض السَّائل أن الشِّعر في انحدار. لا أرى انحدارًا شعريًّا، في أيِّ عصر، حتَّى في عصر الانحطاط، كما يسمَّى. يكفي أن تبقى من أيِّ عصر قصيدة عالية، لأقول إن الشِّعر ما زال يتابع مسيرته "بألف خير". كثر يظنون أنهم شعراء، سيغربلهم الشِّعر لاحقًا. فلا خوف على الشِّعر.
وبَعد... شغل ديواني الذي ألَّفتُه في السجن "شغل محابيس" كثرًا، فسألني قارئ "الْتَهَمَ" صفحاته الـ544 وقصائده الـ1258، في ليلتين: بمَ تتميز قصيدة السجن؟ وكان جوابي "لا تختلف قصيدة السِّجن عن أيِّ قصيدة، إلَّا في ما تجسده من جمال قبح. تصور أنني كتبت قصيدة عن البرغشة التي كانت تمتص دمنا ونحن نيام "راس كعب" في ذاك السجن. قد يكون لكاتب قصيدة السجن الفضل في إخراجها إلى النور، لأنه يعمل أكثر من غيره على تمزيق ستارات العتمة، وما أصعبها.
وتابعني القارئ نفسه إلى احتفالات توقيع كتب، ولاحظ أنني "من أكثر المتحدثين المُفضِّلين" لدى مؤلِّفي تلك الكتب، فسأل ماذا أضافت إليَّ هذه التجربة؟ وسأل أيضًا عما سمَّاه سرَّ تواضعي... أجبته أن إطلالاتي وكلماتي في مناسبات تواقيع كتب الأصدقاء، من أجمل ما وفَّرته لي الحياة الثقافية. هناك أعلن على الملأ محبتي لكل حرف يُكتب. وحين لا يعجبني الحرف كثيرًا، وإن كنت أحبُّ صاحبه، أراني منحازًا إلى قلبه لا إلى حبره، فأعطيه رأيي بصدق، من دون تجريح، وبمحبَّة غير منتقصة نبضة، وبصراحة من دون مواربة. لست الحجَّاج لأُعمِلَ سيفي، ولا يهوذا لأبيع سيدي. بل أشبِّهني أحيانًا بيوحنا الحبيب، أرقب تحت الصليب، إذ لا بد من قيامة. أما سرُّ تواضعي، على ما قال، فليس في الأمر سرّ. التواضع تربية وسلوك. زهرة حقل أنا أجمل من ثوبِ ملك.
أما الشَّاعر الإعلاميُّ اللامع فسألني ماذا أقول في البعض الذين يتصدرون الساحتين الأدبية والافتراضية ويتخذون من القصيدة سلعة أو تجارة في أسواق الرقيق، وما رأيي في بعض الغاوين الذين يتصدرون قائمة "الانتقاد" للشعراء؟
هؤلاء "المتصدرون"، أجبته، ينطبق عليهم القول في أغنية شريفة فاضل "ما تروحش تبيع الميه، بحارة السقايين". هؤلاء تجارتهم خائبة، وعسى ماؤهم لا "تتخمخم" في أكوابهم. يفضحهم ذات يوم ماؤهم. أما ماء الشعراء الشعراء فيمكن تحويله خمر جمال، ما إن يقترب من أيِّ شفة. وأما غاوو الانتقاد فأشبههم بمن يلجأ إلى مبدأ "خالف تعرف". كسروا مزراب عين، وتطاولوا على من لا يصلون إلى خصر قافيته، ليس إلَّا. ولن يصلوا.
وفي السياق نفسه، سألتني سيدة عن الثقافة الحقيقية؟ وهل ما يعيشه الوسط الثقافي اللبناني، راهنًا، يعكس مفهوم الثقافة؟ وما رأيي في كثرة الملقبين شعراء، وفي التوزيع العشوائي لهذا اللقب؟
قلت لها: الثقافة الحقيقة هي المعرفة العميقة العمودية قبل الأفقية بكل شيء، وما هدفها إلَّا أن تسعى إلى أن يكون الإنسان على مثال خالقه. ليست الثقافة عرض عضلات معرفية أو لغوية، وليست تنظيرًا وشعرًا أشعث ولحية هجاها ابن الرومي. أما الألقاب، فينطبق عليها سؤال زياد رحباني، في مسرحيتيه الأخيرتين "بخصوص الكرامه والشعب العنيد" و"لولا فسحة الأمل"، عن أيهنَّ "سيدة الرقص الشرقي". أما الشعر، فمن يستأهل لقب شاعر، لا يحتاج إلى "هز وسط". يجب أن تهزَّ كلمته الكون. أليس الشِّعر "كفّ ربِّك إذ طنَّت على الزمن"؟ على ما قال سعيد عقل؟