أربعة أعوام مرّت على ثالث أكبر انفجار غير نووي في تاريخ البشرية. أربعة أعوام لم تتمكّن الحكومة مع كلّ الصلاحيات التي منحها إياها الدستور، من إعادة بناء مرفأ ببروت، الذي كان ممكناً أن يضع العاصمة اللبنانية في مكانة مرموقة على الصعيد الإستراتيجي (الاقتصادي والسياسي) لو لم يتمّ تفجيره.

تاريخيًا، ذُكِرَ اسم مرفأ بيروت أول مرّة في الرسائل المتبادلة بين الفراعنة والفينيقيين، وجرى تطويره في العصر الروماني ليُصبح مركزًا تجاريًا واقتصاديًا في المنطقة، ثم استخدمه الأمويون ميناءً للأسطول العربي الأول. وخلال الحروب الصليبية اضطلع بدور بارز في التجارة البحرية بين الشرق والغرب، وزادت أهميّته في العصر المملوكي بعد تحويله ميناءً تجاريًا يزوره الحجاج من الأراضي المقدسة. وفي العام 1887، منحت الإمبراطورية العثمانية شركة عثمانية امتياز الميناء، فحصلت هذه الشركة من خلاله على حقوق حصرية من الجمارك لتخزين جميع البضائع العابرة التي تمرّ عبر المرفأ ونقلها. وفي العام 1925 أصبحت هذه الشركة فرنسية ودُعيت "شركة مرفأ وأرصفة ومخازن بيروت".

قبل الانفجار، كان مرفأ بيروت من أهمّ الموانئ في شرق البحر الأبيض المتوسط وأكثرها ازدحامًا. وكان يعبر من خلاله أكثر من سبعين بالمئة من السلع والبضائع التي تدخل إلى لبنان، وشكّل بوّابة عبور أساسية لنقل البضائع إلى سوريا والعراق والأردن ودول الخليج العربي. واُختير مركزًا لإعادة الشحن لثانية وثالثة أكبر شركات شحن الحاويات في العالم. وكان المرفأ يتعامل مع أكثر من ثلاثمئة مرفأ عالمي، ويستقبل حوالى ثلاثة آلاف سفينة سنويًا، وصُنّف في المرتبة 38 عالميًا في العام 2018 كأفضل الموانئ أداءً، لاحتوائه على أحدث أجهزة التفريغ والتحميل، وتوفيره تسهيلات عدة للتعامل مع معظم أنواع السفن وتخزين السلع والبضائع.

الأحداث التي عصفت في لبنان منذ العام 2019 ولا تزال مُستمرّة، حرمت المرفأ من الاضطلاع بدوره الطبيعي نقطة وصل بين الشرق والغرب، وأفقدته موقعه الإستراتيجي على الصعيد الإقليمي. وإذا كانت البداية مع الانفجار الذي ضرب المرفأ في العام 2020، والذي دمّر قسمًا كبيرًا منه، وأدّى إلى خسائر مباشرة وغير مباشرة بقيمة تفوق الخمسة عشر مليار دولار أميركي، فإنّ الانقسام السياسي والعجز الحكومي والتقاعس عن إعادة إعمار المرفأ تُعدّ هذه كلها مجتمعة السبب الرئيسي لفقدان المرفأ موقعه الإستراتيجي لمصلحة مرافئ إقليمية أخرى، كمرفأ حيفا الذي اعتُمد لربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط مرورًا بدول الخليج العربي والأردن وفلسطين المُحتلّة. وبذلك خسر لبنان رسوماً على أكثر من 165 مليار دولار من السلع والبضائع، تُشكّل حجم التبادل التجاري بين الهند وأوروبا، فضلًا عن قسم من التجارة بين الاتحاد الأوروبي والشرق. وبحساب يسير، فإنّ الخسائر المباشرة (مداخيل خزينة) تتخطّى الملياري دولار سنويًا بالإضافة إلى خسائر غير مباشرة (غياب فرص اقتصادية) تتخطّى الخمسة مليارات دولار سنويًا. بالطبع، يعود الفضل إلى السلطة السياسية التي عجزت عن القيام بما يلزم لقطف فرصة تاريخية كان ممكنًا أن تجعل من لبنان HUB للتجارة الإقليمية وحتّى قسمًا من التجارة الدولية.

وبما أن المشروع كان يمكن، لو حصل، أن يجعل من مرفأ بيروت ممرًا بين الهند والاتحاد الأوروبي بدل مرفأ حيفا. ولكنّ ذلك يتطلّب بنى تحتية مواكبة واستثمارات كبيرة. وتالياً كان بمقدور الاقتصاد اللبناني أن يعود إلى الوضع الذي كان عليه قبل الأزمة، أي ما يوازي من حيث الحجم 54 مليار دولار أميركي في فترة لا تتجاوز العشر سنوات من تاريخ بدء العمل في المشروع (تقديراتنا من خلال حسابات اقتصادية أكثر تطوراً بعض الشيء).

من هذا المُنطلق، يتبدّى أنّ القوى السياسية عجزت وتعجز عن تحييد الاقتصاد عن اللعبة السياسية المُعقّدة (بحكم النظام الطائفي والارتهانات للخارج)، والتي تُفقر الشعب، إذ هبط الناتج المحلّي الإجمالي (القدرة الشرائية) للفرد من 9226 دولارًا أميركيًا في العام 2018 إلى 3350 دولارًا في العام 2023، أي بخسارة توازي الـ 64% من القدرة الشرائية (أرقام البنك الدولي).

سعيُ القوى السياسية إلى بلوغ السلطة مشروع في العالم، ولكن ليس بأيّ ثمن، وخصوصًا ليس على الطريقة الماكيافيلّية التي وضعت دعائم النفعية والواقعية السياسية وأصبحت مُلازمة للشر. لا يحقّ للمسؤولين حرق البلد تحت شعارات سياسية رنّانة، كالطائفية والمذهبية وغيرهما من الحجج المُعيبة التي أعادت لبنان 24 عامًا إلى الوراء. وللتذكير بلغ الناتج المحلّي الإجمالي في لبنان 17.7 مليار دولار أميركي في العام 2001. وها هو اليوم يبلغ 17.9 مليار دولار بعدما وصل في العام 2018 إلى ما يوازي الـ55 مليار دولار.

المطلوب، اليوم، هو الواقعية التي تصبّ في مصلحة المواطن (الاقتصاد السياسي) وليس الواقعية التي تصبّ في مصلحة الأحزاب السياسية (الماكيافيلّية). وبالتالي، هل يُمكن التخلّي عن المصالح الحزبية والشخصية لمصلحة الوطن والشعب؟ هذا سؤال برسم القوى السياسية التي يُمكنها من خلال اعتماد النظريات الحديثة في علم الاقتصاد السياسي، فصل السياسة عن الاقتصاد إلى أقصى الحدود، واتخاذ قرارات اقتصادية ذات وقع إيجابي وفوري على المواطن.

وقد يتساءل البعض عن واقعية هذا الطرح، خصوصًا أنّ ما يحصل على الجبهة الجنوبية يُشكّل عائقًا أساسيًا يحول دون أخذ القرارات الاقتصادية، وهذا حق. إلّا أنّ ما يُمكن القوى السياسية القيام به، على الأقلّ، هو إعادة تشكيل السلطة التنفيذية من رأس الهرم، أي انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة أصيلة للتفاوض مع صندوق النقد الدولي والقيام بالتعيينات الإدارية والمالية والقضائية وتدعيم مؤسسات الدولة وتطهيرها من الفساد وفرض سيادة القانون... هل هذا بكثير على الشعب اللبناني؟

في الذكرى الرابعة لأبشع جريمة في التاريخ الحديث (تفجير مرفأ بيروت)، سواء كانت نتاج الإهمال أو عملًا تخريبيًا أو إرهابيًا، يتحتّم على المسؤولين الوقوف وقفة ضمير لإنقاذ البلد قبل تحميل الشعب المزيد من الأثمان غير الضرورية.