اعتادت إسرائيل أن تخوض حروبها خارج حدود الأرض التي احتلّتها في فلسطين. فكانت دول الجوار مسرحاً لأعمالها الحربية، وأدّى تفوقها العسكري إلى تراجع قدرات الجيوش المواجهة، وفشلها في التصدي لأطماع دولة الاحتلال التي راحت تفاوض العرب من موقع القوي والمنتصر، بفضل الدعم الغربي الكبير، وفي طليعة الدول الداعمة الولايات المتحدة الأميركية التي أمّنت لها التفلّت من العقاب ومدّها بكلّ ما تحتاج إليه من دعم مالي وعسكري.  

ولأنّ الجيوش العربية، أو بعضها، كانت عاجزة أو غير راغبة في التصدّي للاحتلال الإسرائيلي ومن يقف خلفه، برز خيار المقاومة وسيلةً وحيدة لتحرير الأرض وللتصدّي للاحتلال وأطماعه. ولأنّ عمل المقاومة مختلف عن عمل الجيوش التقليدية، وجدت إسرائيل نفسها تخوض مواجهات ليس في المواقع التي احتلّتها فحسب، بل كذلك في داخل فلسطين. ووحدها المقاومة تمكّنت من دفع الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000 بعد سلسلة طويلة من العمليات والهجمات التي استهدفت مواقعه التي احتفظ ببعضها في منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، لما لهذه المنطقة من أهميّة إستراتيجية.  

إذاً، هي المقاومة التي تحوّلت تجربتها إلى مادة تُدرّس في أهم المعاهد العسكرية العالمية. تجربة تطوّرت مع الوقت وتجهّزت واستعدّت وخاضت المواجهات مع الاحتلال الذي وجد نفسه، خلافاً لتجاربه السابقة، يخوض حرباً على أرضه. والحرب التي بدأها ردّاً على عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول من العام الماضي والمستمرة إلى اليوم، تعدّ أكثر الحروب التي خاضها طولاً، منذ تاريخ اغتصابه فلسطين. الاحتلال الإسرائيلي وجد نفسه يخوض الحرب داخل حدوده، ووجد أنّ عاصمته باتت هدفاً للمسيّرات اليمنية، وأنّ كلّ فلسطين المحتلة احتمت بالقبة الحديدية وبمساعدة خارجية لتتجنب ليل الهجمات الإيرانية. وصوَر مدنها ومواقعها العسكرية والإستراتيجية الحيوية نشرتها المقاومة الإسلامية في لبنان في سلسلة أفلام "الهدهد". إسرائيل التي كانت تهدّد الجميع وجدت نفسها مهددة في وجودها. تهجير في شمالها، وقصف يستهدف عاصمتها، وحرب مفتوحة مع قطاع غزة يمكن أن تتوسع إلى مناطق أخرى في الكيان. والمستقبل الآمن والمضمون الذي كانت تعد به المهاجرين اليهود إلى "أرض الميعاد" بات سؤالاً ملحّاً يطرحه "مستوطنو الشمال" على حكومتهم، متوعدين بأنهم لن يعودوا، في حين اختار بعضهم العودة إلى بلده الأصلي الذي لا يزال يحمل جنسيته، وهو كان قد تركه طمعاً بالتقديمات التي تعد بها سلطات الاحتلال اليهود الذين يرغبون في القدوم إلى إسرائيل والإقامة فيها.  

اختارت إسرائيل الهروب إلى الأمام، في خطوة منسّقة مع الدول الداعمة للاحتلال. استفادت من العجز العربي وغياب الموقف الدولي الحازم الذي يلزمها بوقف مجازرها في حق المدنيين، وانطلقت لتعيد كرة النار إلى ملعب خصومها. في رسالة تقول إنّها تستطيع استهدافهم ساعة تشاء، وإنّهم سيكونون على غارب حرب شاملة في حال الردّ. إذاً، هي تستطيع الاعتداء على من تشاء، ولكن أيّ رد على اعتدائها هو إعلان حرب. ويكفي رصد مواقف الدول الداعمة للكيان، والتي أعلنت وقوفها المسبق مع مغتصب المعتقلين وقاتل الأطفال في غزة لدى مواجهة أيّ عمل مقاوم، بل ذهبت إلى اعتبار أي تهديد لإسرائيل تهديداً لها.  

إذا لم يتم التعامل مع ما قامت به إسرائيل على أنّه إعلان حرب، فكيف يمكن القول إن الرد هو الحرب...

ولكن السؤال الذي غاب عن بال إسرائيل ورعاتها ممن حاكت معهم مخطّطاتها ونسّقت خطواتها، أنّ قبول الأطراف المواجهة بهذه المعادلة هو استسلام للاحتلال، بل إعلان موت المقاومة بكل أطيافها. وبهذا المعنى يمكن القول إنّ ما أقدمت عليه إسرائيل من خطوات إنّما هو هروب إلى الهاوية التي ستنزلق إليها المنطقة بأكملها. فلا يمكن الجبهة المضادة لإسرائيل أن تحجم عن الردّ على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، والقيادي في "حزب الله" فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، وقبلهما استهداف ميناء الحديدة في اليمن. وتنطلق هذه الجبهة من منطق رفض المبررات الدولية أو التهديدات الموجهة إليها، لأنّها ترى فيها انحيازاً إلى طرف لم يقم وزناً لأيّ قانون دولي، وهو ماضٍ في ارتكاب المجازر في حق المدنيين المحاصرين وتجويعهم وتعذيبهم، فيما تقف الشرعية الدولية عاجزة صاغرة راضخة لمشيئته، مباركةً لجرائمه، ولكنها تنتفض حين يتصدّى له أحد. وبالتالي، كان التحذير من التصعيد والانزلاق إلى مواجهة شاملة نصيحة وجب توجيهها إلى إسرائيل قبل الآخرين.  

وفي هذا الإطار، من الممكن وضع الكلام الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله عن حتمية الرد، وتأكيد أنّه ردّ فقط، إذ لا يمكن التعامل مع الرد على فعل بفعل يماثله إلّا بالمنطق نفسه. فالاستهداف بالاستهداف والاعتداء على السيادة باعتداء على السيادة، أمّا التعرّض للشرف فذلك ما لا يمكن إسرائيل، ومن خلفها، أن يعي معناه أو مقدار ثمنه.  

هو الميدان الذي يحدّد مسار الأمور، سبق لنصرالله أن قال ذلك، فحصل أن تحوّلت المنطقة المقابلة للحدود الجنوبية اللبنانية إلى منطقة أشباح تركها المستوطنون ولم ينجحوا في العودة إليها. واليوم، مجدداً فإنّ الكلمة للميدان، ولكن الأمر سيكون أكثر من مشاغلة حدودية. فالرد على ما اقترفته إسرائيل في العمق لا يمكن إلّا أن يوازيه حجماً وتأثيراً ورمزية.  

إنْ كانت إسرائيل قد اختارت الهروب إلى الأمام بغية الخروج من مأزقها الراهن، فلا بدّ للمقاومة التي هي، بحسب المتعارف عليه، وسيلة للتصدي لأيّ اجتياح أو اعتداء، من اعتماد مبدأ "أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم". فبدل أن تبقى منتظرةً استهداف قادتها وتهديد عمقها، باتت ملزمة بنقل المعركة إلى مستوى آخر، مختلف ومدروس.  

فإذا لم يتم التعامل مع ما قامت به إسرائيل على أنّه إعلان حرب، فكيف يمكن القول إن الرد هو الحرب. تلك هي المسألة، هذا هو المنطق.