عاش لبنان طويلاً تحت مظلّة الـ "شرعي وضروري ومؤقّت" التي كانت تستخدم لتبرير بقاء الجيش السوري في لبنان من دون تحديد مدة صلاحية. وعلى المنوال نفسه، كانت تشريعات "لمرة واحدة فقط" من تمديد رئاسي إلى تأجيل انتخابات إلى ما هنالك من استسهال لخرق القانون بالقانون. بحسب هذه النظرية، تم ويتم التعامل داخلياً وخارجياً مع موضوع النزوح السوري إلى لبنان.
الحكومة الحالية تعمل وفق الروحية نفسها، فهي تُعتبر مستقيلة حكماً منذ إعلان نتائج الانتخابات النيابية وبدء ولاية المجلس النيابي الجديد. ولكنها، وفق المنطق المذكور أعلاه، تمارس مهامها التي لم تبقَ محصورة بتصريف الأعمال بالمعنى الضيق، بل باتت تقوم بمهامها ومهام رئيس الجمهورية بعد انتهاء الولاية الرئاسية، ومنذ تاريخه إلى اليوم تعتبر الحكومة أن عملها "شرعي وضروري ومؤقت" رغم تشكيك فرقاء عدة في مدى شرعية ما يحصل، ولكن الأمر نفسه كان حاصلاً عند الاستخدام الأول لهذه المقولة.
إذاً، هو نزوح يتعامل معه العالم أيضاً، كما تعامل سابقاً مع وجود الجيش السوري في لبنان وفق منطق شرعي وضروري ومؤقت ما دام هذا الأمر ناسب الدول المعنية بالقرار وتقرير المصير. فحين قرّر الخارج أنّ الأوان حان لنزع الورقة اللبنانية من اليد السورية حصل ما حصل في لبنان من تحرّكات وأزمات واغتيالات، أبرزها جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وانتهى الأمر بخروج الجيش السوري من لبنان. بمعنى أنّ الخارج نزع عن الوجود العسكري السوري صفة "شرعي وضروري ومؤّقت" التي تركه يتنعّم بها مع تطبيق اتفاق الطائف. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة الخطاب الغربي حيال المطالبات اللبنانية بحلّ أزمة النزوح السوري التي تهدّد مصير لبنان وهويته ونظامه.
في سلسلة "تاريخ الأحزاب اللبنانية" مع الزميلة ندى اندراوس عزيز على منصة "الصفا نيوز"، ورد في أكثر من مقابلة ومع أكثر من شخصية كلام حول التعامل الغربي مع الأحزاب المسيحية قبل اندلاع الحرب في العام 1975، ولا سيما الإشارة إلى أن الصحافة الغربية كانت أكثر تبنيّاً لخطاب معادٍ للأحزاب المسيحية وأكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين، ولكن ليس في فلسطين، بل في لبنان. هي النظرة الغربية التي انطلقت من مشروع الوطن البديل وتوطين الفلسطينيين في لبنان، وفق نظرتهم إلى لبنان على أنه كيان أيضاً شرعي وضروري ومؤقّت، ولكن شرعيته تنطلق من مدى الحاجة إليه وضرورة استمراره حتى إيجاد حل للمنطقة. هكذا أراد الغرب لبنان، دولة معلّقة، فسمح بتقاسم النفوذ فيها بين سوريا وإسرائيل، ولم يساعدها على تحرير أرضها رغم صدور قرارات دولية عن مجلس الأمن بهذا الشأن. تركها ساحة اختبار ومسرحاً لتبادل الرسائل حتّى المتفجّرة منها.
كان المرجع اللبناني الراحل السيد محمد حسين فضل الله يقول عن لبنان "لا يراد له أن يقع ولا أن ينهض". أي أنّ هناك حاجة إليه كما هو في ضعفه، وهو الضعف الذي رأى فيه مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل قوة. إذاً، هي شرعية وطن من الضرورة أن يبقى ضعيفاً، وبالتالي مؤقّتاً في انتظار التسوية الكبرى للمنطقة حيث يعاد رسم الخرائط وحياكة الأنظمة.
فهل ما يجري في فلسطين اليوم، وما جرى في سوريا قبلها، هو بوابة التغيير الديموغرافي المخلخل لأساسات الدولة اللبنانية؟ فمن تعاملِ الغرب مع تقاسم النفوذ في لبنان بين سوريا وإسرائيل إلى مشروع النزوح المزدوج، ومن النزوح السوري إلى لبنان ومشاريع دمج النازحين بالمجتمعات المضيفة ورفض تسهيل عودتهم إلى وطنهم الذي بات أكثر استقراراً من لبنان، إلى مشروع ترحيل الفلسطينيين من غزة والضفة، إذ هنالك، على ما يبدو، من يريد للبنان أن يكون مقصدهم، كما كان مقصداً للفلسطينيين الذين لجأوا إليه منذ العام 1948 إلى العام 1967. وتصبح المسألة أكثر فجاجة حين ترى تعامل الغرب مع كل ما يجري من مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين على أنّه امتداد لمشروع الشرق الأوسط الجديد ولعملية التطبيع العربي الإسرائيلي. وهكذا يصبح مفهوماً كلّ هذا التصفيق الذي حصده رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو خلال إلقاء كلمته أمام الكونغرس الأميركي. هو تصفيق قياسي بأيدي العشرات من ممثّلي الشعب الأميركي ليدَي نتنياهو الملطّختين بدماء 40 ألف ضحية، ثلثهم من الأطفال. 81 مرة صفقوا خلال 52 دقيقة، بمعدل تصفيق كل 40 ثانية، وهذا ما يذكرنا بما أعلنته اليونيسيف عن أن جيش نتنياهو يقتل طفلاً فلسطينياً كلّ 10 دقائق منذ 8 تشرين الأول 2023 حتى يومنا هذا متكّئاً على الذخيرة الأميركية وتصفيق الكونغرس.
هو تصفيق قياسي بأيدي العشرات من ممثّلي الشعب الأميركي ليدَي نتنياهو الملطّختين بدماء 40 ألف ضحية، ثلثهم من الأطفال
وبالعودة إلى لبنان وملف النزوح واللجوء المتصل بالحرب الدائرة في غزة، وتلك التي دارت في سوريا، هناك فرقاء يتعاملون من حيث يدرون أو لا يدرون مع هذا الخطر الداهم على أنّه مسألة ظرفية، تُستخدم في لحظة تجييش تدعم مشروعهم من دون أيّ اعتبار لما يخدم مشروع الوطن اللبناني. ارتفعت الأصوات المطالبة بترحيل النازحين السوريين عقب مقتل باسكال سليمان على يد أفراد عصابة سورية لسرقة السيارات وتهريبها عبر الحدود، وزاد الصراخ مع الحديث عن هبة أوروبية للبنان لإبقاء النازحين فيه، وعقب زيارة الرئيس القبرصي إلى بيروت طالباً وقف تسلل النازحين بحراً إلى بلاده. وخفتت هذه الأصوات شيئاً فشيئاً ولم يبقَ منها سوى محاولات بعض البلديات ترحيل السوريين ممن دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية إلى خارج نطاقها الجغرافي.
اليوم، الخوف كل الخوف من أن يصبح النزوح السوري وجوداً شرعياً، ضرورياً دائماً ويكون لبنان هو المؤقّت.