السبت 13 تموز 2024، حاول شاب أميركي اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب فيما كان يتحدّث إلى مناصريه في ولاية بنسلفانيا. وقد أطلق الشاب توماس كروكس البالغ من العمر 20 عاماً عدة طلقات من سطح مبنى على بعد مئة وعشرين متراً من المنصّة التي كان يقف عليها ترامب الذي أصيب بأذنه. وسارع الحرس الشخصي لترامب إلى قتل الجاني، ثم أشارت التحقيقات إلى أنّ الشاب كان يعمل منفرداً. 

إلّا أنّ هذا لم يمنع تصاعد التكهنات في صفوف عدد كبير من الناس، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة سبق أن شهدت عدّة حالات اغتيال اتُّهم فيها منفذ منفرد، ليتبيّن في وقت لاحق أنّ الاغتيال كان نتيجة مؤامرة محبوكة دبّرها جمعٌ من أصحاب المصالح ومراكز القوى. وما عزّز فرضية وجود مؤامرة يشترك فيها غير طرف هو الأنباء التي تأكّدت لاحقاً، ومفادها أنّ طائرة من دون طيار رصدت مكان التجمّع قبل قليل من وصول ترامب وبدء إلقاء كلمته، وهذا ما يرجح أنّ المنفّذ لم يكن وحيداً. 

وفي أول تعليق له على الحادث، اعتبر الفيلسوف الروسي الشهير الكسندر دوغين أنّ محاولة اغتيال ترامب كانت متوقّعة، وأنّ من دبّرها هم دعاة العولمة بدعم من الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وهذا ما يمثّل تصعيداً من قبلهم للاحتفاظ بالسلطة ومنع العالم من التحوّل إلى عالم متعدّد الاقطاب، معتبراً أنّ ما جرى جزء من محاولة انقلابية لمنع ترامب من الوصول إلى سدّة الرئاسة.
وأكّد دوغين أنّ مسؤولية محاولة اغتيال ترامب، المرشّح الأبرز في السباق الرئاسي الأميركي، تقع على عاتق المجموعة المحيطة بأوباما وبلينكن وهيلاري كلينتون وبايدن. وسبق أن أعلن الأخير  أنّ «الحرية فوق كل اعتبار»، مبرّرًا أيّ تصرّف قد يأتي في سياق حماية هذه الحرية. 

ما جاء على لسان دوغين يشير إلى أزمة يواجهها فريق المحافظين الجدد الذين صعدوا إلى السلطة في الولايات المتحدة في أواسط الستينيات من القرن الماضي لتطبيق أجندتهم الآيلة إلى فرض الهيمنة الأميركية على العالم بدافع إيديولوجي يسعى إلى نشر الليبرالية ديناً وحيداً في العالم. والجدير ذكره أنّ وصول هذا الفريق إلى السلطة كان قد مرّ عبر عملية اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كنيدي في تشرين الثاني 1963، علماً أنّ شكوكاً كانت تحوم حول نائب الرئيس في عهد كنيدي ليندون جونسون تتصل بتورطه في التآمر على كنيدي. ومعلوم أن اغتيال كنيدي جاء نتيجة رفضه اجتياح كوبا عقب نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ باليستية في الجزيرة، وتفضيله حلّاً دبلوماسياً مع الزعيم السوفياتي آنذاك نيكيتا خروتشيف. 

مع صعود المحافظين الجدد إلى السلطة بدأوا تنفيذ أجندتهم الخاصة في العالم، فاعتمدوا سياسة صدامية مع الأنظمة الثورية في العالم الثالث لأنها تعارض هيمنتهم، لينتقلوا بعدها إلى بسط سيطرتهم على الشرق الأوسط في السبعينيات والثمانينيات عبر دعم إسرائيل وسياساتها العدوانية ضد العرب، بالتوازي مع زعزعة كتلة الدول الاشتراكية وفكّ قبضة الاتحاد السوفياتي على دول أوروبا الشرقية والوسطى. وبعد نهاية الحرب الباردة سعى هذا الفريق إلى توسعة حلف شمال الأطلسي في وسط أوروبا وشرقها، وصولاً إلى حدود روسيا، كما دعموا صعود اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو وفرضوا أجندتهم في عهد جورج بوش الابن ليجتاحوا أفغانستان والعراق ويُدخِلوا الشرق الأوسط في دوامة الفوضى، وهم مستمرون في هذه السياسة إلى اليوم. 

إنّ خطورة ترامب تكمن في أنّه ينطلق من منطلقات وطنية أميركية ويقف في صفّ الولايات المتحدة ضدّ الحكومة العالمية.
لكنّ مغامرات المحافظين الجدد لم تستطع إيصالهم إلى أهدافهم الآيلة إلى السيطرة على الشرق الأوسط وأوكرانيا وتطويق القوى الأوراسية تمهيداً لضربها. هذا ما جعلهم يصلون إلى حدّ الأزمة العميقة التي تمثّلت في تمرّد النّاخب الأميركي عليهم، وتصويته للمرشح الذي تحدى مرشحهم وهو دونالد ترامب. وعلى الرّغم من إطلاقهم حملة ضدّه عنوانها "أوقفوا ترامب" تمكّن من التغلّب على هيلاري كلينتون والفوز بالرئاسة. عندئذ سعى المحافظون الجدد جاهدين إلى عرقلة ولاية ترامب عبر تطعيم إدارته بعدد من أركان فريقهم مثل وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون. وبعد ذلك، تمكّنوا من كسره في الحملة الانتخابية التي جرت في العام 2020 ليفوز مرشّحهم جو بايدن بالرئاسة. لكنّ عدداً من العوامل، من ضمنها تفاقم أزمة الولايات المتحدة نتيجة سياسات بايدن الاقتصادية ومغامراته السياسية الخارجية، أدّت إلى عودة نجم ترامب إلى السطوع سطوعاً جعله ينجح في الفوز بتسمية الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية ضد بايدن في تشرين الثاني المقبل. ولأنّ كلّ الاستطلاعات تشير إلى احتمال كبير بفوز ترامب، جاءت محاولة الاغتيال كخطوة يائسة لبقاء المحافظين الجدد في السلطة. 

ويبدو أنّ هؤلاء لا يريدون عودة ترامب في ظلّ المرحلة المفصلية التي تمرّ بها الولايات المتحدة والعالم. وبالعودة إلى الكسندر دوغين، فهو يرى أنّ بنية النظام الدولي تشهد تغيراً جذرياً من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب. ويلفت إلى أنّ ترامب هو من سيقود الولايات المتحدة لتكون إحدى القوى في نظام متعدد الأقطاب، والأكثر نفوذاً من دون أن يكون نفوذها مطلقاً. وفي نظر دوغين، فإنّ أنصار العولمة لا يهتمّون بمصالح الولايات المتحدة بقدر ما يهتمّون بمنطلقاتهم الأيديولوجية ومصالح الأوليغارشية الغربية التي يمثّلونها. ويقول دوغين حرفياً إن المحافظين الجدد بحاجة إلى قوة ذات امتداد عالمي لتحفظ مصالح الرأسمالية المعولمة، إذ ينظرون إلى جميع الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا، على أنّها مجرد أدوات في إنشاء الحكومة العالمية. 

إنّ خطورة ترامب تكمن في أنّه ينطلق من منطلقات وطنية أميركية ويقف في صفّ الولايات المتحدة ضدّ الحكومة العالمية. وكما أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمثّل روسيا، والرئيس الصيني شي جينبينغ يمثّل الصين، وماهاندرا مودي يمثل الهند، وفكتور أوربان يمثل هنغاريا، ومارين لوبان تمثّل فرنسا، وحزب البديل الألماني يمثل ألمانيا، فإنّ ترامب يمثّل مصالح الولايات المتحدة في مواجهة الرأسمالية المعولمة التي تسعى إلى الهيمنة على العالم بأسره. وبما أنّ المحافظين الجدد شعروا بأنّ ترامب يمكن أن يخرجهم من السلطة في أكبر بلد في العالم، فسعوا إلى اغتياله، لكنّهم فشلوا. إلّا أنّ هذا لا يمنعهم من المحاولة مجدداً.