بعد عزوف الرئيس جو بايدن عن الترشح وإعلانه تأييد نائبته كامالا هاريس لخوض السباق الانتخابي، وهو القرار الذي ينتظر أن يخرج عن الحزب الديقراطي في مؤتمره الوطني بعد أربعة أسابيع، ما يطرح تحديات جدّية على الحزب خلال هذه المدة القصيرة، بات الجميع يحضّرون أنفسهم لملاقاة وصول المرشح الرئاسي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع السنة الجديدة، أيّا يكن منافسه الديمقراطي المرتقب أو منافسته، والفرق هنا أنّ ترامب وكما هو مرجح يأتي هذه المرة إلى الرئاسة الاميركية مرتاحاً وقوياً ومدعوماً بتأييد واسع على عكس ولايته السابقة إذ وصل إلى الرئاسة بشقّ النفس، وهذا ما جعله يفشل في الفوز بولاية ثانية أمام بايدن، وكاد يتسبّب بفتنة أميركية ـ أميركية نتيجة النزاع على نتائج الانتخابات. ولم ينسَ الأميركيون والعالم بعد كيف أنّ مناصريه اقتحموا مبنى الكابيتول وعاثوا فيه تخريباً، قبل أن تحسب المراجع الأميركية المختصة أمر سقوطه في الانتخابات أمام بايدن عام 2020.

ويقول مطّلعون على المشهد الأميركي أنّ أكثر من ينتظر عودة ترامب إلى البيت الأبيض هم دول أوروبا الشرقية وروسيا، لأنّ من أهدافه وقف الحرب الروسية ـ الأوكرانية التي قال في أحد لقاءاته الانتخابية أخيراً أنّه يمكنه وقفها بـ"اتصال هاتفي".

ويبدو أنّ رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان عاون وسيعاون ترامب في هذا الصدد إذ بدأ أخيراً وساطة غير معلنة بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد التقى أوربان ترامب في فلوريدا أخيراً بعد أن كان له لقاء مع بوتين وزيارة للصين، وهذه الوساطة يُنتظر أن تُستكمل فصولها مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض مطلع السنة المقبلة.

وطبيعي، يضيف هؤلاء المطّلعون، أنّه بعد التفاهم الأميركي ـ الروسي الذي يفترض أنّه سيوقف الحرب الروسية ـ الأوكرانية، سيكون الوضع في منطقة الشرق الأوسط في صدارة البحث بين ترامب وبوتين. أما في ما يتعلق بمستقبل الوضع في سوريا، فلقد انتهى أخيراً مفعول "قانون قيصر" المفروض على دمشق، وليس واضحاً حتّى الآن هل تمدد واشنطن العمل به أم لا. علماً أنّه طرح في واشنطن خلال أيار الماضي اقتراح يقضي بإبدال قانون قيصر بـ"قانون مقاطعة سوريا" الذي هو أشدّ في عقوباته، ولكن لم يؤخذ به في الدوائر الأميركية المختصة يومذاك.

الوضع السوري

وإذ يجزم هؤلاء المطّلعون في أنّ الوضع السوري سيتحسّن أكثر فأكثر في ضوء التفاهمات الروسية ـ الأميركية المنتظرة في عهد ترامب الجديد، يؤكدون في الوقت نفسه أنّ هذا الأمر سيغيّر بنحو أو آخر من موازين القوى السائدة في لبنان في اتجاه "عودة الروح" إلى النفوذ السوري فيه بحيث يكون لدمشق رأي مسموع في بعض الشؤون اللبنانية، ولكن من خلال حلفائها الذين لا يمكنها تجاهل دورهم ونفوذهم، ولا سيما منهم حزب الله، بحيث أنّها ستحيل كلّ من يراجعها في شأنٍ لبناني إلى قيادة الحزب.

ويعتقد المطّلعون على المشهد الأميركي أيضاً "أنّ أكثر من يخدم حزب الله هو حزب القوات اللبنانية الذي يمنع أيّ تواصل مسيحي ـ علوي، فرئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل جرّب في هذا الاتجاه، ولكنّه رُفض بسبب علاقته مع قطر، لأنّ كلّ من له علاقة مع قطر بدأ يضعف في لبنان وخارجه، وإحدى الدلالات إلى عودة النفوذ السوري هو ابتعاد بعض السياسيين القريبين من قطر عن الأضواء وهم معروفون. ولذلك فإنّ القوات اللبنانية من حيث تدري أو لا تدري تخدم حزب الله في منع أي انفتاح مسيحي على النظام السوري الذي لن يعود إلى لبنان باختياره وإنّما سيعود في شكل من الأشكال.

وفي اعتقاد المطّلعين "أنّ صفقة القرن التي عمل ترامب عليها في ولايته السابقة "لن تمشي" لأنّه عندما ستتوقّف حرب غزة سيحصل التطبيع"، ويقصد هؤلاء بالتطبيع هنا "التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل" بحيث أنّه، في رأيهم "لن يكون هناك شيء اسمه "حلّ الدولتين" ولا دولة للفلسطينيين، بدليل تصويت الكنيست الإسرائيلي الأسبوع الفائت بغالبية ضدّ إقامة الدولة الفلسطينية، إذ لم يعترض على هذا القرار سوى تسعة أصوات هم الأصوات العربية في الكنيست، فيما جميع الأصوات اليهودية صوّتت ضدّ "الدولة الفلسطينية". وهذا القرار يندرج ضمن حملة التهيئة الجارية في غير اتجاه وعلى أكثر من صعيد لعودة ترامب، ويدرج هؤلاء في هذا الإطار سعي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المفاجئ إلى تطبيع العلاقات مع النظام السوري، ووصول مسعود بزشكيان الإصلاحي إلى رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وخوف الأكراد (قسد) من حصول انسحاب أميركي من سوريا وهو سيحصل عند تولّي ترامب مقاليد الرئاسة الأميركية.

انفتاح على ايران

على أنّ الملاحظ أنّ كلّ هذه المتغيّرات الهائلة تحصل وليس هناك أيّ جهة أو حزب يعترض عليها. ولا يستبعد المتابعون للموقف الأميركي انفتاح ترامب على إيران ودعوتها إلى التفاوض للتوصّل إلى إتفاقات وتسويات معها بحيث يمكن أن يقول للإيرانيين "أنكم حرّكتم حلفاءكم في المنطقة من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن للضغط علينا لكي تجتذبونا إلى تسوية أو اتفاق معكم، فتعالوا نتفاوض علّنا نتّفق بعيداً من تبادل الضغوط". ويلفت المتابعون هنا إلى القصف الإيراني الذي تعرّضت له إسرائيل في 14 نيسان الماضي رداً على قصفها القنصلية الإيرانية في دمشق، ويقولون إنّ الرئيس الأميركي بايدن منع الإسرائيليين من الردّ على الردّ الإيراني، حتّى لا يتسبب الأمر بحرب شاملة تلحق الأضرار والأخطار بإسرائيل وبالمصالح الأميركية في المنطقة، ولكن الآن، وبعد أربعة أشهر تقريباً على هذه الواقعة، وفي ظلّ تراجع وضع بايدن سواء في الوضع الانتخابي أو بالأهلية العقلية للاستمرار في السلطة "بات على الجانب الإيراني (الذي ما زال يؤيد بقاءه في البيت الأبيض) أن يحسبها جيداً لجهة احتمال إقدام إسرائيل على عمل عسكري ضد إيران، وأن الهجوم الجوي الإسرائيلي على اليمن ربما أرادت إسرائيل منه أيضاً توجيه رسالة إلى إيران مفادها أنّها هاجمت اليمن البعيد أكثر من ألفي كيلومتر عنها وأنّها تستطيع أن تهاجمه من دون مساعدة أحد عسكرياً ولوجستياً وهي الأقرب جغرافيا إليها (أكثر من 1500 كيلومتر).

وأكثر من ذلك، يؤكّد هؤلاء المتابعون أيضاً أنّ الإسرائيلي لا يصعّد ضدّ لبنان بوتيرة أكبر من الوتيرة المعتمدة حالياً، وأنّ بايدن كان قال له "لا يمكنك فتح حرب على لبنان". ولكن بعد الآن حيث تعاظمت قوة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنامين نتنياهو وضعف بايدن في المقابل، وعلامة ضعفه موفده آموس هوكستين الذي باتت وساطته في شأن تنفيذ القرار 1701 لوقف الحرب على حدود لبنان الجنوبية في حكم المنتهية، وقد عاد الإسرائيلي إلى المكابرة والتأكيد أنّه لن يعود إلى 6 تشرين الأول 2023 اليوم الذي سبق عملية "طوفان الأقصى" في السابع منه.

حرب على "البرابرة"؟

ولذلك فإنّ أحد أهداف زيارة نتنياهو للكونغرس الأميركي هو الحصول على "كارت بلانش" دعماً لما يخطط لتنفيذه تحت شعار أنّه يحارب "البرابرة" نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب. ذلك أنّ نتنياهو سيصوّر نفسه أمام الكونغرس أنّه يحارب عن الغرب وأمريكا وسيقول للأميركيين، بحسب المتابعين "إنّ البرابرة احتلّوا جامعاتكم هنا وباتوا موجودين في عقر داركم، ألم تروا كيف أحرقوا العلم الأميركي بعد أن أنزلوه ورفعوا العلم الفلسطيني مكانه. لذلك من واجبكم أن تدعموا إسرائيل لأنّها تواجههم نيابة عنكم".

ويخلص هؤلاء المتابعون إلى القول إنّه بعد 24 تموز الجاري "سنشهد تصعيداً لا مثيل له". ويؤكدون أنّ الانطباع السائد لدى صنّاع القرار في الولايات المتحدة الأميركية هو أنّ العرب لو أُعطيوا فلسطين كلّها لن يحبّوا أميركا، وأنّ الجو السائد داخل الحزب الجمهوري الذي يستعدّ لتولّي الرئاسة الأميركية يؤيد إسرائيل بقوّة، لأنّه يعتبر أنّ الحرب الدائرة هي حرب على الحضارة الغربية، ولذلك استقبل نتنياهو في واشنطن على أساس أنّه يشكّل خطّ الدفاع الأول عن هذه الحضارة".

وفي رأي المطلعين على الموقف الأميركي أنّ النظرة الأميركية إلى الدور القطري تراجعت، على رغم كلّ ما قامت به الدوحة وتقوم من مشاركة فعّالة في الوساطات لوقف إطلاق النار، وفرض هدنة عطّلها الإسرائيليون ولا يزالون. في الوقت الذي انبرى يائير نتنياهو نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى وصف قطر بأنّها "ثاني دولة مموّلة للإرهاب في العالم"، فكأنّ ما ترتكبه إسرائيل يومياً من مجازر وتدمير ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ تسعة أشهر ليس إرهابا ولا جرائم حرب، فيما محكمة العدل الدولية أصدرت حكماً قبل أيام اعتبرت فيه الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين غير شرعي.