عند نشر هذه السطور يكون رئيس الوزراء الاسرائيلي بينامين نتنياهو قد وصل إلى واشنطن أو ما يزال في طريقه إليها، طامحاً إلى العودة منها بدعم يتوّجه فاتح عهد ملوك "إسرائيل جديدة" تعيش ثمانين عاماً جديدة، يعمل لإقامتها على أنقاض إسرائيل الحالية التي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، إذا تسنّى له ذلك على أجساد أبناء الشعب الفلسطيني وأرواحهم وبيوتهم التي سوّتها آلته الحربية بالأرض على طول قطاع غزة وعرضه. ويتزامن وصول نتنياهو إلى واشنطن مع إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن قراره العزوف عن الترشّح للانتخابات الرئاسية وقراره التركيز على مهامه الرئاسية حتى انقضاء ولايته.
حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استجماع ما أمكنه من "أوراق قوّة"، حملها إلى واشنطن علّه يعود منها "في ذروة القوّة" ليواصل مواجهة ما يسمّيه "الخطر الإيراني"، الذي سيحاول انتاجه من خلال خطابه أمام الكونغرس الأميركي في 24 من الشهر الجاري، بغية الحصول على الدعم كـ"واجب"، يعتبر أنّ على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أن يؤدّوه تجاه إسرائيل من دون أن تطلبه منهم، مصوّرة نفسها أنّها تواجه نيابة عن الغرب كلّه.
ولذلك أراد نتنياهو من قصف اليمن رداً على طائرة يافا الحوثية التي ضربت عمق تل أبيب، الأسبوع الماضي، أن يؤكّد لواشنطن وللغرب وللإسرائيليين أنّ ذراعه لا تزال طويلة وقادرة على مهاجمة كلّ من يهاجم إسرائيل، ولذلك أطلق تسمية "الذراع الطويلة" على الهجوم الجوي الذي شنّه على مدينة الحديدة اليمنية وشمل أهدافاً مدنية، وأراد نتنياهو من هذا الهجوم أيضاً توجيه رسالة إلى "محور المقاومة"، مفادها أنّه قادر على أن يهاجم الجميع وصولاً إلى إيران نفسها التي تقود هذا المحور.
ترامب سيكون في هذه الحال ملزماً بالسير في "حلّ الدولتين"
ومن خلال قصفه اليمن، تمكّن نتنياهو من التملّص من المفاوضات الجارية في الدوحة والقاهرة لتحقيق اتفاق على وقف إطلاق النار وهدنة في غزة، حتّى لا يذهب إلى واشنطن في ظلّ اتفاق من هذا النوع ضغطت إدارة الرئيس جو بايدن، ولا تزال تضغط عليه، للقبول به، لكنّه راوغ وناور ولا يزال لأنّه يريد أن يبني على الشيء مقتضاه قبولاً، أو في ضوء نتائج زيارته للعاصمة الأميركية، حيث يعول عليها أن تمكّنه من الحصول على الدعم الذي يساعده لاحقاً على "أن يقلب ظهر المجن" في المنطقة.
ورغم أن التطور المتصل بقرار بايدن العزوف عن الترشّح مع تمسّكه بأداء مهامه حتى انتهاء ولايته، كان قراراً متوقعاً بل مطالباً به من قبل الكثيرين في حزبه يبقى السؤال حول ما إذا كان قرار العزوف سيصبّ في خانة التشدّد بمواجهة نتنياهو ومشاريعه للمنطقة، أو أنّ بايدن بات منهكاً لدرجة أنّه سيترك لغيره تحمّل تبعات ما سيحصل ونتائج القرارات وانعكاساتها على الساحة العالمية، ولاسيما ما يتصل بتطورات الصراع في منطقة الشرق الأوسط، مع ترقّب الرد اليمني على الاستهداف الإسرائيلي لأراضيها.
مرحلة دقيقة
ولذلك هي مرحلة دقيقة يمرّ بها لبنان والمنطقة وستستمر أقلّه إلى مطلع السنة الجديدة، إذ يكون الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد عاد إلى البيت الأبيض مجدداً، حسبما تدلّ كلّ التوقعات والاستطلاعات خصوصاً بعد نجاته من محاولة الاغتيال التي تعرّض لها. ومن الآن حتى ذلك الحين، فإنّ الأوضاع في الإقليم ستكون مفتوحة على كلّ الاحتمالات سياسياً وديبلوماسياً وعسكرياً، مشفوعة باستمرار الحرب على جبهتي غزّة وجنوب لبنان على وقع تهديد إسرائيلي بحرب شاملة يُرَد عليه بالاستعداد لها أيّاً كانت النتائج والتبعات.
على أنّ الخطير هنا هو ما يفكّر فيه نتنياهو الآن، وفي "اليوم التالي" (إذا كان له أن يملك زمام تحديد ماهية هذا اليوم التالي)، فهو يعتبر أنّ إسرائيل تخوض "حرب وجود" في مواجهة حركة "حماس" وأخواتها في قطاع غزة وضد "حزب الله" على جبهة الشمال، وهو يخوض مثلها في الضفة الغربية التي تبدو بالنسبة إليه كأنّها في "مرحلة تحمية" قبل أن يلجأ إلى تصعيدها بعد أن يتمكّن من الإجهاز نهائياً على قطاع غزة، ويساعده في ذلك الموقف المتذبذب لحليفه ترامب الذي تارة يقول إنّه لا يؤيّد الحرب في غزة ويجب أن تتوقف، وطوراً يعلن تأييده لها. قبل أن يدعو إلى إطلاق "الرهائن الإسرائيليين" في غزّة قبل أن يتولى الرئاسة الإميركية "وإلّا فسيتمّ دفع الثمن باهظاً"، لكنّ ترامب لم يحدّد ماهيّة هذا الثمن، الذي ربما سيكون تماهيه مع نتنياهو في مشروعه لمحو قطاع غزة من خريطة الدولة الفلسطينية الموعودة في مشروع "الدولتين". علماً أنّ المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس كشف، على الأرجح، الموقف الحقيقي لترامب عندما دعا نتنياهو قبل أيّام إلى إنهاء حرب غزة قبل موعد الانتخابات الأميركية، أي قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، إذ قال فانس لمحطة "فوكس نيوز": "أولاً، نريد من إسرائيل أن تنهي هذه الحرب بأسرع ما يمكن لأنّه كلّما طالت أصبح وضعهم أصعب. وثانياً، بعد الحرب، نريد إعادة تنشيط عملية السلام بين إسرائيل والسعودية والأردنيين".
الإجهاز على فلسطين
ولذلك، وفي حال لم يتمكّن نتنياهو من القضاء على حركة حماس وأخواتها، وبالتالي تدمير ما تبقّى من قطاع غزة وتهجير ما بقي من سكّانها إلى بقاع الدنيا، وليس إلى سيناء وحدها، فإنّ ترامب سيكون في هذه الحال ملزماً بالسير في "حلّ الدولتين" من ضمن "صفقة القرن" التي كان يعمل عليها خلال ولايته السابقة وقطع شوطاً كبيراً فيها، بحيث أنّه لا يمكنه في هذه الحال التماهي مع مشروع نتنياهو الإجهاز على القضية الفلسطينية برمّتها، وإقامة الدولة اليهودية الخالصة على أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، يعاونه في ذلك كلّ الوزراء اليمينيين المتطرّفين في حكومته الحالية أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، المطالبين بالسيطرة الكاملة على قطاع غزة و ترحيل فلسطينيي الضفة الغربية التي يسمّونها "يهودا والسامرة" إلى الأردن ليكون وطنهم البديل. والغريب في هذا المجال إطلالة أحد الإعلاميين الخليجيين أخيراً عبر قناة "آر. تي" الروسية في برنامج حواري قال فيه بالصوت والصورة الآتي: "القدس انتهى موضوعها وسيعترف الجميع بشكل مباشر وغير مباشر بأنّها عاصمة إسرائيل. والمسجد الأقصى سيضمّ إلى الحرمين الشريفين ويكون تحت إشراف الإدارة السعودية، وهذا ما سيحصل شاء من شاء وأبى من أبى. وبالنسبة إلى الفلسطينيين سيكون الأردن وطنهم البديل أو يقبلون بالمواطنة الإسرائيلية". ويختم هذا الإعلامي كلامه بالقول:" نريد أن ننتهي من هذه القضية التي دمّرت الأمة".