يحلو لنا في لبنان، أو لبعضنا على الأقل، أن نستعير من التاريخ حضوراً للواقع، إذ يخيّل لنا أنّ ورود اسم لبنان في الكتاب المقدس، أو قصص فينيقيا وأبجديتها وأعلامها، أو تمثال جبران خليل جبران في حديقة عامّة تحمل اسمه شمال غربي العاصمة الأميركية واشنطن، وغيرها من الأخبار، تعطينا هذه كلها أفضليّة على باقي شعوب الأرض. ونطرب لسماع أغنية كتبها الشاعر يونس الإبن، يقول مطلعها: "لبنان شو لبنان، هـ الكم أرزة العاجقين الكون، هـ القبل ما في كون كانوا هون".
هذا الحضور اللبناني الذي نتخيله من باب التمنّي في كلّ مطابخ السياسة العالمية. العالم منشغل بنا وبمن سيكون رئيساً لبلادنا، وحريص على مصالحنا لا بل يبدّيها على مصالحه الوطنية والخاصّة. إحساس التفوق اللبناني هذا لا يقتصر على إصرارنا على أن يكون أكبر صحن تبولة من إنجازاتنا، فنحن نركض خلف كلّ لبناني، أو متحدّر من أصول لبنانية، حقّق شيئاً بنفسه لنفسه، كي نقاسمه نجاحه.
وما استحضار جميع هذه المسائل، اليوم، إلّا لأنّ دارة آل بولس في كفرعقا في الكورة في شمال لبنان، قد تتحول لمحجّة في قابل الأيام. فمحاولة اغتيال دونالد ترامب عزّزت حظوظه بالفوز بلقب الرئيس مجدداً، وفي هذه الحال سيعود معه إلى البيت الأبيض صهره مايكل بولس زوج ابنته تيفاني. ومع التغيير المتوقّع في الإدارة الأميركية، فإنّ العديد ممن كانت الإدارة الحالية، بعدما تصبح الإدارة السابقة قد التقتهم، بناءً على طلبها أو طلبهم، وتمّ الترويج على أنّهم من المُرضى عليهم أميركياً، يخشون من تراجع حظوظهم في "العهد الترامبي" المرتقب. وعلى جري العادة في القرى اللبنانية، سيصطحب أهل العزوة بعض هؤلاء المرشحين أو المرشحين الجدد لزيارة آل بولس لتتوسّط لهم العائلة عند الصهر لينقل الاسم علّه يحظى بفرصة. لطالما كان الأهل يصحبون أولادهم لزيارة نائب المنطقة أو المسؤول طلباً لتوصية بشأن وظيفة ما، وهو ما عُرِف اصطلاحاً بـ"الواسطة". فهنيئاً لمن يعرف آل بولس، فهو وجد لنفسه نافذة على حديقة ترامب والعائلة.
إذاً من المتوقّع أن تكون لائحة الأسماء القديمة التي كانت على جدول أعمال اللجنة الخماسية قد طُويت، وبات ضرورياً رصد الذين كانوا يروّجون لها وما ستؤول إليه "رهاناتهم". كما يجب ألّا يغيب عن بال أحد أن التغيير المقبل إلى البيت الأبيض سينعكس حكماً على كلّ الملفات والقضايا الدولية، وهو ما أصبح بالإمكان تلمّسه من خلال حالة الشلل التي بدأت تصيب جميع المحاور على مستوى القرار. هذه الحالة لن تنتهي مع وصول ترامب، أو سواه، إلى البيت الأبيض. فالمسألة ستستغرق وقتاً قد يمتد حتّى الربيع المقبل بحيث تصبح آلة الحكم أو الإدارة في واشنطن فاعلة ونشطة.
أين لبنان منها ومن النشاط على خطها والتشاور حولها؟
وليس خافياً أن العالم سيكون، إلى تاريخ تسلّم الإدارة الأميركية الجديدة مهماتها، مسرحاً لأحداث لا يمكن توقّعها، ونحن، اليوم، في مواجهة أسئلة لا يملك أحد الإجابة عنها. بدايةً مع الملفات المشتعلة. فلا بد من السؤال عن مآل الحرب الروسية الأوكرانية خلال هذه الفترة؟ هل هنالك من يملأ الفراغ الأميركي إلى جانب كييف؟ هل يمكن أن تتصاعد حدة المعارك في الوقت الضائع بين إدارتين؟ على أن السؤال عن مستقبل هذه الحرب لا بد أن يكون عن تأثير علاقة ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مجريات ما يحصل.
ومن أوكرانيا إلى غزّة وحدود لبنان الجنوبية، هل نشهد تصعيداً في حدة المعارك إذ سيعمد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى توظيف محاولة اغتيال ترامب في تمرّده على إدارة الرئيس جو بايدن ليشنّ حرباً على لبنان، وعندئذ يجد البنتاغون نفسه ملزماً بنتائجها، وبالتالي دعم تل أبيب في حربها؟ وكيف سيتعامل لبنان الرسمي مع الحرب؟ ما دام حزب الله سبق أن أعلن عن جهوزيته للتصدي لأي عدوان كاشفاً عن بنك أهدافه داخل الكيان. وإذا اندلعت الحرب، أو لم تندلع، وبقيت المواجهات على المنوال نفسه، فما الذي سيتغير مع وصول ترامب إلى الحكم؟ هل يستمر في فتح خزانة بلاده ومستودعات أسلحته أمام الإسرائيلي أم سيحسب لكلّ شيء حساباً بحكم عقله التجاري؟
ومن الملفات المشتعلة، وآخرها ملف غزة وجنوب لبنان، نفتح الباب على سؤال حول موقف العرب في حال اتساع دائرة الحرب الإسرائيلية، لندخل على موضوع علاقة واشنطن بالمملكة العربية السعودية والمسار الذي ستسلكه بعد توجهات الرياض الأخيرة نحو الانفتاح على الصين مثلاً، أو بشأن قضية البترودولار، وعن الدور الأميركي في سوريا وانفتاح أنقرة ودول الخليج العربي على دمشق، وعن البرنامج النووي الإيراني ودعم طهران حركات المقاومة من اليمن إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا.
هذه القضايا التي تراوح بين الحاضر الملح والمستقبل المرتقب لا بد أن تكون الشغل الشاغل لكل حكومات المنطقة بل العالم، فأين لبنان منها ومن النشاط على خطها والتشاور حولها؟ وهل يعي العالم العربي أهمية التوصّل إلى رؤيا موحدة أو جامعة لمواجهة التطورات المُطلّة؟
بالعودة إلى بيروت، لا يزال البحث جارياً عن سبيل لتمويل استيراد الفيول لتوليد الطاقة من أجل تزويد المشتركين بالكهرباء نحو 4 ساعات يومياً.