الاعتقاد السائد في أعقاب محاولة الاغتيال التي نجا منها المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب هو أنها رفعت شعبيته وأبرزت صورته صلبا لا يهاب الخطر، لا يكاد يقع حتى يقوم داعيا إلى مواصلة القتال، ويطلب من حرّاسه الانتظار حتى يستردّ حذاءه. وساد الاعتقاد أيضاً أنّ ترامب سيستفيد من الاعتداء عليه في خطاب قبوله ترشيحه من قبل الحزب الجمهوري للرئاسة فيدعو إلى الوحدة والتماسك ونبذ العنف. لكنّ من كان يأمل أن يرى ترامب في صورة مغايرة خاب ظنه. خرج ترامب عن نص الخطاب إلى الارتجال والعودة إلى خطابه السابق الذي وصف بأنه تحريضي، لا يستند إلى الوقائع ويغالي في استخدام صيغة "أفعل التفضيل."
محاولة الاغتيال تخلق تعاطفا شعبيا مع الضحية الناجي حتى من قبل ألدّ أعدائه. إن نجحت يستفيد منها من هم قريبون من الضحية سياسيا، وإن فشلت يستفيد منها من كان هدفاً لها. عام 1981 حين أصيب الرئيس رونالد ريغان برصاصة جون هينكلي تعاطف معه الأميركيون وحلفاؤه وخصومه ووصلت شعبيته إلى أعلى درجاتها. ولم يكن لدى هينكلي أي هدف سياسي. كان يريد لفت نظر الممثلة جودي فوستر. لكنّ من حاول اغتيال ترامب قُتِل قبل أن يكشف عن دافعه. فقد قيل إنه مسجّل كجمهوري في القيود، وقيل أيضا أنه ترك تعليقا يفيد بأنّه يكره الجمهوريين ويكره ترامب. أيّ الموقفين هو الأصدق ولماذا؟ ليس معروفا بعد.
لكن محاولات الاغتيال قد تترك أحيانا حرقة في حلق من كان يودّ نجاحها ورغبة في الانتقام من قبل من يدورون في فلك المستهدف. ألم يقل أحد المنتخَبين الديمقراطيين إنّ "بوصة واحدة كانت ستنقذ الديمقراطية؟" وفي المقابل ألم ينادِ كثيرون من أنصار ترامب، وكثيرون منهم مسلّحون، بالانتقام؟
ولكم أن تتخيّلوا كيف سيواصل ترامب توظيف صورة المنتفض الناجي من محاولة الاغتيال في مقابل صورة الرئيس الحالي، منافسه الديمقراطي جو بايدن البطيء الحركة، الدائم التلعثم، المنخفض الصوت والذي تبدو عليه سائر علامات التقدّم في السن.
ولا شك في أنّ الديمقراطية الأميركية اليوم تمر في أزمة عميقة، اختبرتها سابقا في الحرب الأهلية أواسط القرن التاسع عشر، والفترات اللاحقة التي شهدت عدّة اغتيالات ومحاولات اغتيال، وصولاً إلى أزمة ووترغيت التي أجبر فيها الأعضاء الجمهوريون في مجلس الشيوخ الرئيس الجمهوري رتشارد نيكسون على الاستقالة.
روبرت ليبرمان، وهو أستاذ للعلوم السياسية في جامعة جونز هوبكنز، قال لمجلة فورين أفيرز "إن أربعة عوامل تسهم في خلق أزمة للديمقراطية. الأول هو الاستقطاب السياسي. الثاني هو الجدل، بل النزاع المتعلق بمن ينتمي إلى الطيف السياسي. الثالث هو غياب العدالة في توزيع الموارد الاقتصادية. أما الرابع فهو المبالغة في استخدام السلطة." وأوضح ليبرمان أن "العوامل الأربعة كلها كانت حاضرة حضورا قويا في السنوات الثماني الماضية."
ألم يكن فوز ترامب في الرئاسة على هيلاري كلينتون عام 2016 ردة فعل أميركا "البيضاء" على ثماني سنوات من رئاسة باراك أوباما؟ ألم يكن ترامب يتعمد ذكر "باراك حسين أوباما" لإثارة نعرات معيّنة كلما أراد ذكر اسم الرئيس (السابق)؟ ألم تكن هذه العوامل هي التي دفعت ترامب إلى المرتبة التي وصل إليها؟
يقرّ الكثير من الأميركيين بأن الديمقراطية الأميركية هي الآن أمام امتحان صعب
إلى الآن، لم يتوصل التحقيق إلى أكثر من أنّ محاولة الاغتيال كانت عنفا فرديا وليس منظماً. إلا أن الخشية، وفق ما يقول ليبرمان، أن "يواصل ترامب خطابه التحريضي، وهو ما قد يؤدّي إلى الانتقال إلى عنف منظّم."
يبقى أن التنافس السياسي أصبح في أوجه مع انتهاء المؤتمر العام للحزب الجمهوري فجرا (بتوقيت لبنان) في مدينة ميلووكي، والمؤتمر العام للحزب الديقراطي الذي يُعقد الشهر المقبل في مدينة شيكاغو. وإذا كان الجمهوريون اختاروا ترامب في اليوم الأول من المؤتمر فإن الديمقراطيين أمام مأزق خصوصاً أن الأصوات المنادية باستبدال بايدن لم تسكت. ومع إصابة بايدن بالكورونا، يقول المقرّبون منه إنّه ليّن موقفه في شأن إنهاء ترشحه.
عام 1968، كان الرئيس ليندون جونسون مرشحا للرئاسة لكنه وجد نفسه في مأزق سياسي بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ وروبرت كينيدي. عزف جونسون عن الترشح وعُقِد المؤتمر العام للحزب الديمقراطي في جو مضطرب واختار نائب الرئيس هيوبرت همفري مرشحا رئاسيا لكنّ همفري سقط أمام رتشارد نيكسون.
في هذا الوقت يسعى البيت الأبيض إلى تخطي الأجواء المشحونة باقتراح مبادرات سياسية أبرزها الإعلان أنّ بايدن يؤيّد تغييرات في المحكمة العليا. والتشريع المقترح سيضع سقفاً للمدة الزمنية لأعضاء المحكمة العليا، بخلاف الإطار القانوني الحالي الذي يقول بتعيينهم مدى الحياة. وسيقترح أيضا وضع شرعة أخلاقية يلتزم القضاة بها. ولا شك أيضاً في أن هذا الموضوع خلافي ومستقطِب بعدما نجح الجمهوريون وترامب في ملء معظم مراكز السلكين القضائيين المحلي والفدرالي، بما فيها المحكمة العليا، بقضاة محافظين.
يعرف المسؤولون في الحزب الديمقراطي تاريخ حزبهم ويعرفون أنّ عليهم أن يقرروا هذا الشهر إن كانوا يريدون الاستمرار في ترشيح بايدن أو السير في اتجاه آخر. فهم من جهة يخشون ألا يتمكنوا من إعادة قلب الموازين في أعقاب ما جرى في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، ويخشون في المقابل أن يعقدوا مؤتمرهم في جو من الخلاف والاضطراب.
في هذه الأجواء يقرّ الكثير من الأميركيين بأن الديمقراطية الأميركية هي الآن أمام امتحان صعب وسط تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ونزعات التطرف والعنصرية وانتشار السلاح في الداخل. أما على الصعيد الدولي فالتحدّي ليس فوز ترامب أو انتصار بايدن أو بديله. فالسؤال الكبير الموجّه إلى الحزبين معا هو ماذا لدى الولايات المتحدة لتقدّمه للعالم في السنوات المقبلة؟!!