نصّت المادّة 69 من قانون النقد والتسليف، والمُعدّلة بالقانون المنفذ بالمرسوم الرقم 6102 تاريخ 5/10/1973، على التالي: "على المصرف أن يُبقي في موجوداته أموالًا من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي ثلاثين بالمئة على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب، على أن لا تقلّ نسبة الذهب والعملات المذكورة عن خمسين بالمئة من قيمة النقد المصدّر. ولا تؤخذ موجودات المصرف من النقد اللبناني بعين الاعتبار لحساب النسبتين المحدّدتين في الفقرة السابقة".
لا تعني موجودات المصرف المركزي من العملات الأجنبية أنّ هذه الأموال هي ملكٌ للمصرف المركزي، بل إنّ أموال المركزي الخاصّة بالعملة الصعبة هي جزء من هذه الموجودات. المادّة 76 من القانون نفسه نصّت في الفقرة (د) على "إلزام المصارف بأن تودع لديه أموالًا (احتياطي أدنى) حتّى نسبة معيّنة من التزاماتها الناجمة عن الودائع والأموال المستقرضة التي يحدّدها المصرف باستثناء التزاماتها من النوع ذاته تجاه مصارف أخرى ملزمة أيضاً بإيداع الأموال الاحتياطية هذه".
أضف إلى ذلك أنّ المادة 85 من القانون نفسه، نصّت على أنّ "المصرف المركزي هو مصرف القطاع العام". وبالتالي "تودع لديه دون سواه أموال القطاع العام".
لذا، إنّ موجودات المصرف المركزي تتألّف من أموال المصرف الخاصة. ولكن أيضًا من أموال المصارف (الاحتياطي الإلزامي)، ومن أموال القطاع العام، وأموال تابعة لجهات أخرى. فهل يستطيع مصرف لبنان التصرّف بهذه الموجودات على نحو يتناسب والمهمات المُحدّدة له؟
الجواب عن هذا السؤال رهينة المطلوبات لدى المركزي. فالاحتياطي الإلزامي (أو نسبة من أموال المودعين) هو أموال موضوعة في المصرف المركزي بحسب عقود خاصة لا يُمكن المركزي التصرّف بها بأيّ شكلٍ من الأشكال. أمّا أموال الحكومة الموجودة في المركزي بالعملة الصعبة، فهي أموال لا يُمكن تحريكها إلّا بأمر من الحكومة وبناءً على قانون الموازنة. وعليه، لا يستطيع مصرف لبنان التصرّف إلّا بالموجودات التي هي من أمواله الخاصة.
بلغت موجودات مصرف لبنان من العملات الصعبة في نهاية أيار من هذا العام 10.2 مليار دولار أميركي، بحسب تقرير مصرف لبنان (أنظر إلى الرسم البياني المرفق). وإذا ما عدنا إلى الأرقام التي نشرها مصرف لبنان في آب من العام 2023، تبيّن أن لديه سيولة خارجية بلغت 8.57 مليار دولار أميركي، بالإضافة إلى 387 مليون دولار أميركي توازي القيمة السوقية لسندات اليوروبوندز التي يمتلكها (5.7 مليار دولار أميركي قبل الأزمة) مقابل مطلوبات للقطاع العام بقيمة 275 مليون دولار أميركي (دولارات طازجة) وحقوق السحب الخاصة 125 مليون دولار أميركي (المرجّح أنّها صُرفت بأكملها). وإذا ما أضفنا إلى الـ 275 مليون دولار أميركي مبلغ 1.3 مليار دولار أميركي (بحسب تصريحات حاكم المركزي بالإنابة) زيادة في رصيد القطاع العام، فإنّ مطلوبات القطاع العام تصل إلى 1.575 مليار دولار أميركي حداً أقصى من المفترض أنّها دولارات طازجة. الباقي من الموجودات (أي 8.625 مليار دولار أميركي) هو أموال الاحتياطي الإلزامي، بالإضافة إلى بضع مئات الملايين من الدولارات هي أموال خاصة في مصرف لبنان.
هنا ينبغي معرفة ما يُمكن فعله بهذه الموجودات، فالخيارات محدودة في ظلّ انسداد الأفق الإصلاحية:
أولًا – المُحافظة على هذه الموجودات ومُحاولة زيادتها، إذا أمكن، في انتظار ظهور حلول حكومية للأزمة قد تُموّل من هذه الموجودات.
ثانيًا – تمويل الإنفاق الجاري الحكومي من حصّة القطاع العام، وهو ما يتعيّن إدراجه في قانون الموازنة أو في قانون خاص.
ثالثًا – ضخّ قسم من هذه الأموال في الاقتصاد من خلال تسليفات إلى القطاع الخاص، بشرط ربطها بسدّ القروض بالطريقة نفسها التي دُفعت بها.
الجدير ذكره أنّ الخيار الثالث هو الأفضل في ظلّ التخبّط السياسي الحالي إذ يسمح بإعادة النمو إلى الاقتصاد الشرعي، مع العلم أنّ هذه التسليفات ستُموّل بقسمٍ كبيرٍ من سيولة المصارف التجارية نفسها. وهو ما يُبرّر وضعها بشرط إقرار قانون يُلزم المُقترض سدّ القروض بالدولارات الطازجة. والباقي من المصرف المركزي الذي لديه القدرة على تمويل قسم من التسليفات من أمواله الخاصة، إلّا أنّ أموال الحكومة لا يُمكن المسّ بها ما دام ليس في قانون الموازنة ما يسمح بذلك.
مما تقدّم، يظهر أنّ إمكان الاستفادة من هذه الموجودات أمر مُمكن نظريًا، إلّا أنّه مشروط ببعض الإجراءات الحكومية وقوانين تسمح بعودة الثقة التي هي جوهر العمل الاقتصادي. فهل تعمد الحكومة إلى أخذ هذا الخيار؟
الظاهر من تصريحات المسؤولين ومن مقترحاتهم، أنّ هذا الأمر غير وارد حاليًا. فالطبقة السياسية مُنهمكة بالصراع السياسي القائم ومُحاولة كسب نفوذ سياسي إضافي على حساب الطرف الآخر، إذ تركت اقتصاد الكاش يتفشّى بشكل عشوائي وخطير حاصدةً بذلك سكوت المواطنين وغضب المُجتمع الدولي.
وعليه، أصبحت موجودات مصرف لبنان بالعملة الصعبة رهينة القرار السياسي الذي من المتوقّع – أغلب الظنّ – أن يتّجه إلى الخيار الثاني لأنّ الحكومة تحتاج إلى تمويل يسمح لها بتغطية إنفاقها الجاري الذي يجب أن يكون مذكورًا في قانون الموازنة، وهذا أمرٌ لم يحصل في موازنة العام 2024، كما تُثبته أزمة الكهرباء الحالية إذ يُطالب وزير الطاقة والمياه بفتح اعتمادات غير واردة في قانون موازنة العام 2024، وهو ما يرفض تمويله حاكم المركزي بالإنابة. كذلك لم تلحظ موازنة العام 2024 كلفة الفيول العراقي البالغة مليارَيْ دولار أميركي حتّى الساعة، والتي ينبغي للبنان تسديدها بالليرة اللبنانية (أمر مُستحيل تحت طائلة انهيار الليرة إلى مستويات كارثية) أو بالدولار الأميركي، وهذا غير ممكن بسبب عدم وجود المبلغ.
من كلّ ما سبق، يتبدّى أنّ التخبّط السياسي ينعكس على المجالات الاقتصادية والمالية والنقدية بشكل كبير، تاركًا ميدان التداول بالكاش للاعبين الاقتصاديين، معرضًا لبنان لخطر العزل المالي الدولي مع ما يسببه ذلك من تداعيات على التحاويل والاستيراد.