وكأننا في لبنان بحاجة إلى من يذكّرنا بواقعنا المأسوي على أكثر من صعيد ليخرج علينا قادة العدو الإسرائيلي بتهديداتهم بإعادتنا إلى العصر الحجري. يظنّ هؤلاء أننا لا نعيش تلك الأجواء منذ زمن طويل، الأجدى أن يتخيلوا أنفسهم يعيشون واقعنا، اليوم، ولهم أن يقرروا هل يبقون مصرّين على تهديداتهم أم لا.
في لبنان، وليس من باب المفاخرة طبعاً، اعتدنا الحصار الاقتصادي، وانقطاع الكهرباء والمحروقات، اعتدنا انقطاع المياه وتعطل الحياة بكل أشكالها، عشنا مختلف أنواع الحروب وأجوائها، حّتى أنّنا عرفنا انفجاراً يعدّ أحد أقوى الانفجارات غير النووية في العالم. وها نحن نكمل حياتنا بشكل طبيعي رغم الظروف القاسية. والأدهى أنّ اللبنانيين المهاجرين يعودون هذا الصيف إلى زيارة قراهم، حتى تلك الجنوبية التي يتعرض بعضها للغارات بين الحين والآخر. فهل من عقل يستوعب مشهد ارتفاع الدخان جرّاء القصف المدفعي الإسرائيلي لقرى منطقة صور مثلاً فيما يعجّ شاطئ المدينة بالمستجمّين وهم يستمتعون بأشعة الشمس ومياه البحر؟ جبهة الجنوب مشتعلة والشباب اللبنانيون في المهرجانات الصيفية يغنّون: "بدنا نولّع الجو". شهدت بيروت حفلات غنائية ضخمة وغير مسبوقة. أما المهرجانات الصيفية في القرى والبلدات فقد انطلقت منذ أواخر الشهر الماضي وتستمرّ حتى نهاية الصيف.
على الجانب الآخر من الحدود، تعيش إسرائيل التي يهدّد قادتها لبنان بالحرب، قلقاً على الوجود يتمظهر في موجات الهجرة المعاكسة التي يشهدها الكيان، وما تكشفه استطلاعات الرأي المختلفة من خوف ويأس بدأا ينتشران بشكل كبير. فهل يمكن الإسرائيليين أن يعيشوا في حال انقطاع المياه أو الكهرباء عن منازلهم؟ أو في حال نفاد المحروقات؟ أو إذا وقع انفجار في محطة كهربائية أو مستودع ذخائر أو حتى إذا جرى تسرّب نووي من مفاعل ديمونا أو ما شابه؟ وماذا عن منصّات استخراج النفط عند الحدود اللبنانية التي زارتها المسيّرات قبل التوصّل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية وقبل التطورات الأخيرة؟ وهل لدى الإسرائيلي معلومات عن القدرات البحرية التي يملكها حزب الله؟ وماذا يحصل إذا ضربت المقاومة هدفاً من قائمة الأهداف التي عاد "الهدهد" بصورها وإحداثياتها من مصافٍ وخزانات نفط ومصانع كيميائية؟
لا معنى لتهديدات العدو للبنان. فنحن، أصلاً، نعيش التهديد منذ اغتصاب فلسطين إلى اليوم.
تجتمع حكومة العدو، تضع الخطط، وتوفد الوزراء إلى الخارج بحثاً عن المزيد من الدعميْن العسكري والمادي.تستنجد بالدول الكبرى لمنع محاكمة المسؤولين الإسرائيليين أمام المحاكم الدولية، وتستنفر لمواجهة الحملات "الدعائية" ضد المجازر التي ترتكبها. تحرض على اعتبار كل انتقاد لها معاداة للسامية. العدو مستنفر على كل الجبهات، الجيش في جهوزية، وكذلك جنود الاحتياط وجميع القطع العسكرية، مع ما يعنيه هذا الأمر من كلفة عالية على الصعد المادية والمعنوية والعسكرية. أضف وضع النازحين من الشمال وكلفة نزوحهم وضغط هذا النزوح وأزمة الرهائن لدى حماس. الدمار والخسائر التي لحقت بمزروعات الاحتلال كما بالشركات والأسهم من دون إغفال ضرر المقاطعة والحملات الأميركية والأوروبية الداعية إلى وقف التعاون مع إسرائيل وشركاتها ومؤسساتها. هذا كله دليل خوف وتحسّب وخسائر مستمرة، وهي إلى ازدياد.
أما عندنا فنحن لا نزال مختلفين على إمكان التشاور لانتخاب رئيس للبلاد أو الذهاب إلى جلسات الانتخاب من دون تشاور. لبنان بلا رئيس للجمهورية منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول 2022. تقوم بمهمات الرئيس حكومة تصريف أعمال يقاطعها عدد كبير من الوزراء. وهي أعدت خطة طوارئ لمتابعة الوضع في الحدود الجنوبية، ولكن من دون أن تسلك الخطة طريقها إلى الترجمة الواقعية. لا خلية طوارئ فعلية لتوحيد الصفوف الداخلية في مواجهة العدوان الإسرائيلي، فكيف يكون الحال عندما يتعلق الأمر بالتواصل مع الخارج لحشد التأييد الدولي. انقسام سياسي حزبي طائفي من أعلى الهرم إلى القاعدة، شلل مؤسساتي سبق الحرب واستمر بعدها ولو كانت أسبابه مختلفة، منها الانهيار الاقتصادي المالي والعجز عن تسديد ديون الدولة ومستحقات الدائنين وحجز أموال المودعين في المصارف، وتبادل اتهامات وتحريض وتخوين وعراضات تلفزيونية متتابعة تحذر من الفوضى والانهيار. وتُضاف إلى كل ما سبق أعباء وجود نحو مليوني نازح سوري على الأراضي اللبنانية، ينقسم اللبنانيون حول سبل التعامل مع قضيتهم بين داعٍ إلى ترحيلهم وبين داعٍ إلى تمديد بقاء المطلوبين للدولة السورية بتهم سياسية.
الجميع في لبنان أصبحوا متيقّنين أن لا حلّ للحرب عند الحدود الجنوبية من دون وقف لإطلاق النار وهدنة في غزة. ليست المسألة في الموافقة من عدمها، المسألة في واقع الأمور، ويقرّ اللبنانيون بهذا الواقع في حين يبدو الإسرائيلي على مستوى المسؤولية واهماً، أو كاذباً على نفسه لكي يصدّق ما يريد تصويره لشعبه من أنّه يستطيع حمايته. علماً بأنه يدرك في قرارته ما أحدثه حزب الله من تضعضع في جبهته الداخلية، ولو على مراحل، وما "الهدهد" إلا مرحلة في مسار يبدو طويلاً وراعباً بما يحمله من مفاجآت.
يستطيع العدو أن يلحق بنا أضراراً جسيمة فعلاً، ولكنها غالباً ستكون على شكل مجازر يتحمّل المسؤولية عنها من ارتكبها، وإن كنا في لبنان سندفع الثمن أرواحاً غالية وأحزاناً فوق أحزان. ولكن ما يمكن أن يلحق بالعدو من خسائر في كل أوجه الحياة عنده، سيكون أكبر من أن يستطيع تحمّله أو دفع فاتورته.
لا معنى لتهديدات العدو للبنان. فنحن، أصلاً، نعيش التهديد منذ اغتصاب فلسطين إلى اليوم. أما إسرائيل فهي تعيش، في أيامنا هذه، الخوف من تهديدات قد تبلغ عمقها وجميع مجالات الحياة فيها. نحن لا نملك ما نخسره سوى أرواحنا. ولكن العدو يملك الكثير. نحن لا نحمل سوى هوية هذا الوطن الذي ننتمي إليه في حين أنّ الإسرائيلي لا يزال يحمل هوية بلده الأصلي حيث أقاربه ينتظرون عودته. ولعلّنا نشهد تلك العودة في المقبل من الأيام.