تحتفي جامعة القديس يوسف في بيروت (الجامعة اليسوعية)، بتأسيس مركز فيليب سالم للدراسات السياسية، الثلاثاء 16 تموز (يوليو) الجاري، في حرم كلية العلوم الاجتماعية (هوفلان)، الخامسة بعد الظهر.
فأن يقام مركز دراسات سياسي على اسم طبيب ملأت شهرته العالم، بمداواته مرض السرطان، فليس بأمر غريب على ابن بْطرَّام (قضاء الكورة)، الذي ما فتئ يرفد الفكر والسياسة بمواقف إنسانية، سواء بالخطب أو المحاضرات أو المقالات، متبعًا شعاره الذي يطبقه في الطب "العلاج بالمحبة".
البروفسور فيليب سالم المواطن العالمي، إذا صح التعبير، السندباد الذي يجول العالم من أجل شفاء مرضى السرطان، مثلما يقصد عيادته آلاف المرضى في هيوستن، فيليب سالم الخطيب المعتلي أرقى المنابر... يصول ويجول، ويعود إلى بطرام، مسقطِه، إما من أجل عطلة صيف، وإما كلما حطَّ في لبنان، ولو "ترانزيت". هو الحنين الدائم إلى بطرام، يدفعه إليها، تحقيقًا لوصية المرحوم والده: "يا فيليب لا تدع العشب اليابس يغزو درج البيت في بطرام"؟، والعشب لم يغزه، لأن تلك الدار الواسعة مزهرة ومثمرة بالأهل والأصدقاء والشجر والزهور.
وهذا الحنين يجعل السؤال عن العودة الدائمة إلى الجذور، "كم منزل في الأرض يألفه الفتى، وحنينه أبدًا لأول منزل"، مرتبطًا بمآلات العولمة. ففيليب سالم الكوني الإنساني الشامل الجامع، لم تغيره المدنيَّة. وَلَمْ يذُبْ في العولمة. وهو وإن لم يعش دائمًا في بطرام، يحمل عاداتها وتقاليدها ونمط عيش أهلها إلى حيث يكون، ليبقى فيها متجذرًا. يكفي أنه يفطَر يوميًّا على منقوشة صعتر، على ما أسرَّ لي.
وعائلة سالم في بطرام، من العائلات اللبنانية التي رفدت الشأن العام بالأَعلام المجلِّين، وثمة صلة قربى تربط البروفسور سالم شخصيًّا بالعَلَم اللبناني العالمي الراحل الدكتور شارل مالك، ابن بطرام. فتأثير هذا العبقري اللبناني فيه كبير، خصوصًا أن البروفسور سالم حاكاه في مساهمته في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بأن دعا من منبر الأمم المتحدة، إلى إضافة "الحق في الصِّحة لكلِّ إنسان"، إلى ذاك الإعلان.
تتوزَّع حياة البروفسور سالم على أربعة محاور، بسيرة غنية، فتتناغم بين الطب والفكر والموقف والوجدان الإنساني، وهو مجلٍّ فيها جميعًا، بما يجعلنا نسأل هل ينطبق عليه لقب "الحكيم" الذي كان يطلق على فلاسفة وعلماء في مضى، يجمعون إلى الحكمة والعلم، المعرفة بالأدب والطب والموسيقى والفلك... أظن أن لا حاجة إلى الجواب، لأنه بلى من دون شك.
ثمة علاقة بين مفهوم البروفسور سالم للطب وممارسته، والإيمان بالله، وقد اختصره بقوله: "عيادتي كنيستي وصلاتي عملي". قد يظن البعض أنه يفصل بين العلم والدين، لكنه هو من وضع كتابًا من عنوانه يتضح مضمونه "المعرفة تقودك إلى الله". وقد منحه البطريرك الماروني بشارة الراعي، بركة رسولية عن هذا الكتاب، واستشهد بأحد أقوال سالم، أو بإحدى صفاته الطبية، في تلك البركة: "المعرفة وحدها لا تكفي، يجب أن تقترن دومًا بالمحبة"، و"الطبيب الذي لا يحب مريضه لا يمكنه شفاؤه"... كأني بالبروفسور سالم يجسد قول مار أغوسطينوس "أحبَّ وافعل ما تشاء لأن من يحب لا يفعل إلا الخير".
من دون الغوص في تقنيات علاج السرطان، ثمة استراتيجية اعتمدها هذا الطبيب العارف المثابر، بعد طول خبرة وكثير علم ومعرفة، في هذا المجال.
سألتُه ذات مرة عن حوار دار بين طبيب وشاعر. قال الطبيب للشاعر: أحسدُك لأن بيت شعر لك يخلدك أبد الدهور. فيما أنا الطبيب، مهما أطلتُ في حياة مريضي، لا بدَّ مائت.
من دون كثرة تفكير، ضرب لي البروفسور سالم مثلًا عن حالة واجهته، في بداية عمله الطبي لمعالجة مرضى السرطان. روى قصة قريب له، توفي العام الماضي، هو النائب السابق حبيب صادق.
قال سالم: قصدني قريبي حبيب، عام 1978، في بيروت، وكنت حديث العهد في الطب، وأخبرني أنه يعاني مرض السرطان الذي بلغ فيه مرحلة متقدمة. فطلبت منه التوجه إلى الولايات المتحدة الأميركية وإجراء فحوصات واختبارات والعودة بالنتيجة إلي. فتأكد له ولي، في النتائج، وضعه الميؤوس منه.
وأضاف سالم: كان حبيب، حيال هذا الواقع، يائسًا، وطلب مني أن أناوله دواء، يميته رحمة به. رفضت، وأقنعته بتناول دواء معين، يمكنه أن يشفيه. لم أكن مقتنعًا بنجاعة الدواء حينذاك، لكنني افترضت أنه قادر على تأجيل تفشي المرض أكثر، إلى حين اكتشاف دواء أنجع. وهكذا صار... وبلا طول سيرة، بقي حبيب صادق على قيد الحياة، من العام 1978، إلى العام 2013.
العبرة من هذه الواقعة، على ما استنتج البروفسور سالم، أن مهمة الطبيب الرئيسة زرع الأمل في نفس مريضه، وبذل جهده ليحيا أطول عمر ممكن، بصحة جيدة... أما الموت فبيد الله.
للبروفسور سالم في الفكر أكثر من مؤلف، ومئات المقالات التي تصدَّرت الصفحة الأولى من صحيفة "النهار"، بعدما أسدى له الراحل غسان تويني نصيحة بألَّا يدع أفكاره طيَّ الذاكرة... "اكتبها وانشرها". هكذا قال تويني، وهكذا فعل سالم.
يؤمن بالقومية اللبنانية، لكنه يعدُّ لبنان عربي الهوية والانتماء، وعلى الرغم من حمله الجنسية الأميركية، يسجل على السياسة الأميركية حيال لبنان، مآخذ كثيرة وملاحظات.
وقد أعد ابن بطرام، صلاةً لبنانية تلخِّص فكره السياسي، تقول: "أنا قومي لبناني حضاريّ، أبي هو هذا اللبنان. أمي هي هذه الأرض. أهلي هم كل اللبنانيين. ديني "أعبد لبنان بعد الله". منطقتي كل حبة تراب من أرضي. أحب إخوتي إلا أنني لا أحب أخي الذي لا يلتزم الولاء لأبي وأمي. أعاهد الله أن أكون إنسانًا حضاريًّا. وأعاهد لبنان أن أكون مواطنًا أقوم بواجباتي قبل أن أطالب بحقوقي. أنا قومي لبناني إلا أنني أعتبر البشرية جمعاء عائلتي"...
هذه السنة، سيقام مركز دراسات يحمل اسمه في جامعة القديس يوسف، فيما شهد العام الماضي مشاركته في مؤتمر عن جبران خليل جبران، لمناسبة مئوية كتاب "النبي"، وندوة عن فكره، وإلقاءه خطابًا في تخريج طلاب كليات العلوم الطبية في جامعة القديس يوسف، في سابقة أولى ربما، أن يخطب في هذه الجامعة خريج جامعة أميركية. محور الخطاب كان العطاء، فقال للخريجين: "أعطاكم الله فرصة للعطاء، فرصة لإعطاء الحياة".
وسيتضمن الاحتفال بافتتاح مركز الدراسات، في "هوفلان"، توقيع البروفسور سالم كتابين من تأليفه، هما: "الموقف والرؤيا"، و"الدكتور إيلي سالم" شقيقه الذي تولى منصب وزير الخارجية عام 1982، ومن ثم رئاسة جامعة البلمند.
يضاف هذان الكتابان إلى كتب سبقتهما، هي "المعرفة تقودك إلى الله"، و"من جلجلة السرطان إلى قيامة لبنان"، و"رسالة لبنان ومعناه"، فضلًا عن كتاب أعدَّه الصحافي أسعد الخوري عنه، عنوانه "القومية اللبنانية في فكر فيليب سالم"، وكتاب آخر أعدَّته الصحافية مهى سمارة، عنوانه "فيليب سالم الثائر والعالم الإنساني"، فضلًا عن محاورة أجراها معه الباحث جان داية نشرت في كتاب، تحت عنوان "سرطان الطائفية".