أُطلقت مبادرة تعليمية، تحت عنوان منصة "ورشة 29"، أمس الجمعة، من قاعة مكتبة الأمير شكيب أرسلان في الشويفات، آملة في أن تكون "أكاديمية" تخرج روائيين وقاصّين وشعراء ولغويين...
القَيِّمة على المنصة الروائية هيام التوم، وقد أحاط بها أهل اختصاص، يلقِّنون مريدين أصول الكتابة، أونلاين وحضوريًّا، لا بل أفضت ورشة العمل إلى إصدار رواية جماعية، عنوانها "صدى الحطام".
رعى احتفال الإطلاق وزير الثقافة محمد وسام مرتضى، ممثلًا برئيسة منتدى الكورة الخضراء الأديبة المهندسة ميراي شحادة حداد، وشارك فيها الأمين العام لاتحاد الكتاب اللبنانيين البروفسور أحمد نزال، والشاعر مردوك الشامي، وكاتب هذه السطور.
نوه البروفسور نزال بالخطوة، على أنها تسهم في وقف هجرة الشباب، في حين دعا الشامي إلى صقل الموهبة بالعلم والثقافة، أما شحادة فتمنت سيادة الحبر الأبيض محل القلوب السود.
وألقيتُ كلمة ضمَّنتها خبرة سنوات في الكتابة، في مختلف صنوفها. فقلت: هما عبارتان وإسمان... جعلت مفاتيح اللُّغة كلَّها بين يدي. أما العبارة الأولى، وقل عباراتِ كاتبِها جميعًا، شعرًا ونثرًا، فكانت "هو غير غير". قرأتها لدى سعيد عقل، واستوقفني كيف يستطيع هذا المارد تطويع اللغة، على نحو ما يريد. أرادها لغة "غير غير"، أو على ما تقول العامة "غير شكل"، أو على ما يكتب قليلو الحيلة، مختلفة، مميزة، فريدة...
وأما العبارة الثانية فـ"هي باريس". كنت في صدد كتابة موضوع إنشاء، في أحد الصفوف التكميلية، عن رحلة قمنا بها والأهل إلى إحدى المناطق اللبنانية. ورحت أدور على نفسي، علَّني ألجُ لبَّ الموضوع، وأقرأ ما كتبت ولا أستسيغ. ارتحت قليلًا، فإذ بمجلة أمامي. تصفَّحتها، لعلَّ وعسى، إلى أن وقع نظري على موضوع كتبه الصَّحافي أنطوان بارود عن رحلة إلى باريس، بدأه بتلك العبارة... فنسجتُ على منوالها رحلتي المدرسية الإنشائية.
كانت هاتان العبارتين، أما الاسمان فالأول هو التمييز، ألجأ إليه لأختصر، ولأزيِّن، ولأزيل أيَّ إبهام، بأفضلِ صيغة، منصوبًا دائمًا على الجزالة والسَّلاسة. والاسمُ الثاني ليس إلا النكرة، أؤثره على أل التعريف تدخل عليه لتُفسد على العبارة انسيابها، خصوصًا إذا تضمَّنت اسمًا موصولًا.
أربعة مفاتيح فتحتُ بها كلَّ أبواب اللغة، في مختلف صنوف الكتابة... هي في تصرف الورشة 29، إسهامًا متواضعًا في إضافة ولو حرفًا مشعًّا، إلى محاضرات الورشة ودروسها وتطبيقاتها، بما لديَّ من خبرة وباع طويل في عالم الكتابة.
في الشِّعر، أبدأ دومًا ببيت قصيد ثم أروح أبني أبيات قصيد، لتنتهي القصيدة مبنية على "شقعات" جمال، كأني بـ"الغيرِ غير" تحطُّ رحالها في قرية جمال، فأقول: هو الجمال. ومن وصاياي لأيِّ شاعر:
كُنْ مَدَى أَبْجَدِيَّةٍ... لَكَأَنِّي
بِكَ أُفْقٌ فِي جِيئَةٍ وَارْتِحَالِ،
كُنْ حِصَادًا، فَمَوْسِمُ الشِّعْرِ خَيْرٌ
فَرِحٌ، فِي فُصُولِهِ، بِالْغِلَالِ...
شَاعِرٌ أَنْتَ؟ لَسْتَ بَعْدُ، إِذَا لَمْ
تُشْعِلِ الْحِبْرَ... وَقْدَةً لِلْجَمَالِ.
وفي النَّثر، أفجأُ قرَّائي أو سامعيَّ، ليخرج النصُّ النثريُّ فنيًّا عاليًا، ولو كان خبرًا صحافيًّا عاديًّا، فأُثبت بذلك وصاياي لأيِّ ناثر، فتروح بيروتُ مثلًا تتباهى بين المدن أنها غيرُ غير. ومن وصاياي:
إقبِضْ على اللُّغة، نحوًا وصرفًا، فصاحةً وبلاغةً، بكلا روحِك والدَّهَش، واجعلها عجينة في يديك... لا يطوِّعُها ويليِّنُها سوى ماءِ شعورك الدَّافق كنبع. وتجرَّأ، حين تكونُ العارفَ الأمثلَ، على الشَّكل، من دونِ أن تمسَّ الجوهر... فليس الشَّكلُ قالَبًا جامدًا أو موروثًا تقليديًّا. حرِّره من أسرٍ طال. واسجد أمام مذبح الجوهر، سجودَك أمامَ قربان.
في الرواية التي لم أخض غمارَها بعد، تراودني صيغ شتَّى، أريد حصرَها بمفاتيحي الأربعة، ولم يحن أوانها بعد. وإلى حينه، عرَّجت في القصة القصيرة، وفي الأقصوصة، على تلك المفاتيح، فجعلتُ الفجاءة أساسًا، وبنيتُ على الخُلُق، ونوَّعت في الخواتيم، مكثرًا من التمييز والنكرات، حتى إذا ما اكتمل النص، وجدتني أرى وجهي في مرآة.
والشاهد على كلامي قصة "الذَّاكرة"، في كتابي "عكاز للسماء":
أفرَغَ ذاكرتَهُ منْ محتوياتِ ماضيهِ، ليعيدَ ترتيبَها، أحداثًا وناسًا. وصلَ بعضَها بِحاضرِهِ، بِغدِه. جعلَ البعضَ الآخرَ على عتبةِ النِّسيان. أودعَ البعضَ الثَّالثَ خزنةَ تلافيفَ مصفَّحةً، كيْ لا يعودَ إِليهِ أبدًا. وَأقفلَ عليهِ بمفتاحٍ منْ ندمٍ، وَرمى المفتاح. وَما إِنْ عادَ إِلى واقعِهِ، حتَّى وجدَ نفسَهُ بينَ حوائجِ تلكَ الخزنة. ففرحَ فرحًا عظيمًا... حتَّى الجُنون!
والشاهدان الآخران قصتان للناشئة، "نديّ الفتى الرجل"، و"الأغنية الضائعة". نديُّ الذي فقد أبويه وقادته تربيته الخُلُقية الأصيلة إلى تحمل مشقات الحياة، واجتياز الفجيعة، وحيدًا، وميلودي التي فتشت طويلًا عن أغنية كانت جدتها تهدهد لها بها لتنام.
وفي السيناريو... سبق لي أن كتبت مسرحيتين، وتخيلت اسمي مدرجًا تحت عبارة "قصة وسيناريو وحوار"، عبارة كانت ترد في المسلسلات التلفزيونية أو الأعمال المسرحية المنقولة على الشاشة الصغيرة.
مسرحية "طلاع من راسي"، التي تحاكي بلغة جيل العصر، هموم العصر، فيما القيمُ التي يمثلها الجيل السابق، حاضرةٌ لتضخَّ في هذا الجيل مفاهيم الأصالة. ومسرحية "بالمزاد العلني" التي دافعت عن حديقةٍ عامة، كانت ملتقى لجيل شاب، أراد أحد المتمولين، بالحيلة، إزالتها، لبناء مجمع تجاري مكانها.
في اللغة وقواعدها... مذ علمني عمِّي الراحل بطرس يونس، الـ"أن لن إذن كي"، ذات صيف في قريتي شاتين، وكنت ابن خمس سنوات، فجعلني أعشقُ اللغة، إلى اليوم، ما زلت أفتش وأبحث وأتعلَّم وأعلِّم، لأن النبعَ دفاق، والماءَ غزير... و"يا مين يغبّ".
وفي فنِّ الإلقاء والخطابة، هو إحدى المواد التي أعلِّمها في كلية الإعلام، فضلًا عن محاضرات وورش عمل أقيمها لمن يودُّ اعتلاء منبر، أو الإطلالة على الناس، بـ"أسعد الله مساءكم".
ما سبق كان مواضيع تدخل ضمن اختصاصي واهتماماتي، لم أدَّعِ امتلاك المعرفة جميعِها، ولا قللت حضوري في هذا العالم الغني. أما موضوعات الورشة الأخرى، ولا سيما منها الذكاء الاصطناعي، فمعرفتي بها كمعرفة كلٍّ منكم باللغة الصينية وقواعدها... فما قاربتها، لا من بعيد ولا من قريب.
ولكن قبل هذه كلها... تبقى نصيحة واحدة، ربما كان ينبغي لي البدء بها. فعساي لو بها ختمت، أشهد لمفاتيحي أنها ما زالت قادرة على فتح كل الأبواب.
إياك أن تقرب من الكتابة، إذا لم تكن الكتابة موهبتَك أساسًا. لا أحد يعلِّمك الشعر، إنما يمكنه أن يدلَّك إلى قواعده وأصوله، لتُغنيَ بها موهبتك وتصقُلَها، فتجمل قصيدتُك. ولا أحدَ يعلِّمك كتابة القصة أو الرواية أو السيناريو، إن لم تكن تملك ملَكَتَها.
الورشة 29 زرعت، وآن أوان الحصاد. إني أرى سنابل ملأى حبًّا، وخبزًا يقرَّب على مائدة الحبر، شهيًّا كقربان.
وفي الختام تحدث عدد من الأساتذة المدربين شارحين أسسهم التعليمية، ثم وزعت شهادات على طلاب من الورشة، واختتم الاحتفال بتوقيع رواية "صدى الحطام".