لم يكن تفصيلاً بسيطاً إصرار "حزب الله"، قبل عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على غزّة، على تحديد مواصفات رئيس الجمهورية المقبل، وأبرزها "من لا يطعن المقاومة في ظهرها". بالنسبة إلى الحزب، فإنّ هذه الصفة-الشرط كلّ ما يهمه في المعادلة اللبنانية. فهو لا يجد نفسه معنياً بكل ما يجري في الداخل من ارتكابات على فداحتها. وهو القائل، بلسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، إنّ مقاومة الاحتلال أسهل من مقاومة الفساد. ولكن، هل يخشى الحزب فعلاً إدارة ظهره إلى الداخل؟ وألا يعني هذا أنّ الجبهة الداخلية تحتاج إلى الاهتمام الفعلي لإزالة أيّ خوف وتبديد أيّة هواجس إن وجدت؟ وهل يمكن تجاهل كلّ هذا التململ من مواقف الحزب الخارجية، بدل العمل على تقريب وجهات النّظر حولها إن لم يحصل تبنّيها؟
يرى الحزب أنّ مقاومة الاحتلال هي أولوية الأولويات. فالوجود مرتبط بتحرير الأرض. المشكلة تكمن في أنّ الفريق المقابل يقول بأولوية تحرير الإرادة والإدارة من كلّ ما يشوبهما من مساوئ وقبائح. فجبهة الداخل أخطر من الجبهات الخارجية. وتفاحة مُتهرّئة ستقضي على كلّ المحصول وليس على صندوقة فقط. أعدّ الحزب العدّة لمواجهة الاحتلال والتصدّي له، فتمكّن بفضل الدعم الإيراني ومراكمة الخبرات محلّياً واقليمياً من تحقيق الجهوزية التي يتمتّع بها اليوم. فشل مشروع مكافحة الفساد في غياب الدعم الخارجي والإجماع المحلي، وضاع في زواريب السياسة والسلطة والطوائف. فحتّى عند محاكمة اللصوص كان لا بدّ من توزيع طائفي عادل للمرتكبين، وإلّا اعتبرت كلّ طائفة أنّها مستهدفة في هذا البلد "الطوائفي". لن تبقى الحرب إلى الأبد. صحيح أنّ الخسائر ستكون فادحة، ولكنّ الحرب ستنتهي، ويبقى في الجبهات متقاتلون ينتظرون جولة جديدة في موعد لاحق ويعدّون العدة لها من جديد. المشكلة في أنّ الوطن، في صورته الرّاهنة وفي ظل ما يمرّ به، لن يجد طريقه إلى التعافي، بل هو مهدد بوجوده. فهو منذ البداية كان متروكاً ليغرق في دوّامة المديونية والإفلاس كي يصل إلى ما وصل إليه ليتم فرض شروط الخارج الكثيرة عليه. وليس في الأمر أيّ تبنٍّ لنظرية المؤامرة التي يسخر منها كثيرون، خصوصاً الذين يجهلون معنى وجود مراكز دراسات ومشاريع وخطط يجري الإعداد لها ورصد الموازنات لتنفيذها. فعالمنا لا يعرف التخطيط للمستقبل ولا يعرف معنى رسم المسارات وتغيير الخرائط. هذه من اختصاص الخارج، ونحن نراوح في ملعب ردود الفعل التي غالباً ما تكون انفعالية عاطفية وغير مدروسة. إفقار الشعوب ومحاصرتها اقتصادياً ومالياً لتثور على الأنظمة الحاكمة، ليسا بقصص من عالم الخيال. يكفي النظر حولنا لنتيقّن ما حصدت الشعوب من ويلات حين راهنت على الخارج من دون وعي مصالحها الداخلية.
يرتفع الدخان من المنازل المشتعلة جنوباً، وعلى الضفّة الأخرى من الحدود، ولكنّه لا يحجب حجم التحديات ولا بوادر أو دلالات تدحرج المواجهات إلى حرب شاملة
نجح "حزب الله" من وجهة نظره في تحقيق ما كان يصبو إليه من تعزيز لقدراته العسكرية على صعيدَي التجهيز والتدريب. لكنه فشل في طمأنة الشريك في الوطن، كما المعارض له بطبيعة الحال، إلى أنّ هذه القدرات لن تُستخدم في الداخل، خصوصاً بعدما عجزت طاولات الحوار المختلفة عن التوصل إلى توافق على إستراتيجية دفاعية لحماية لبنان يُحدّد بموجبها دور الحزب فيها. كذلك فشل في إقناع حلفائه المفترضين، قبل خصومه، بصوابية دعمه مرشحاً رئاسياً دون غيره، وتمسّكه به حتى لو أدى الأمر إلى ترك البلاد من دون رئيس يفاوض الخارج في زمن التسويات الكبرى وإعادة رسم خرائط المنطقة.
فشل المعارضون للحزب والمختلفون معه في التوحّد حول مشروع إنقاذي يعنى بالشأن الداخلي. كما أخفقوا في الحصول على أيّ دعم خارجي لتحقيق رؤيتهم أو رؤاهم الإصلاحية. ولم ينجحوا في طمأنة الحزب إلى أنّهم لن يطعنوه في ظهره أو في الحصول على تطمين منه في ما يتعلق بتعاظم قوّته وسبل توظيفها في الداخل. وهم يرون أنّ الحزب، في ربطه مصير جبهة الجنوب بوقف إطلاق النار في غزة، إنّما يؤكّد عجزهم عن وضع ضوابط لعمل المقاومة التي تتحرك وفق حساباتها الخاصة. ولا بأس من التذكير بأنّ اعتراف المقاومة بعجزها عن محاربة الفساد واستمرارها بعملها، كأنّ شيئاً لم يكن، يعزز الاعتقاد السائد بأنّ مصلحتها تختلف عن المصلحة اللبنانية كما يراها خصومها، أقلّه من حيث تحديد الأولويات. مع العلم أنّ الانهيار المالي الذي أصاب لبنان شمل الجميع على اختلاف الفئات والطوائف، وبلغ، بطبيعة الحال، قاعدة حزب الله الشعبية. فإذا كان الحزب يوفر بعض الدعم لقاعدته، فإن هذه المسألة ستزيد الشرخ وتعزز الاختلاف مع الآخرين.
يرتفع الدخان من المنازل المشتعلة جنوباً، وعلى الضفّة الأخرى من الحدود، ولكنّه لا يحجب حجم التحديات ولا بوادر أو دلالات تدحرج المواجهات إلى حرب شاملة. تتسابق التهديدات مع التطمينات، حوارات من هنا وخطب من هناك. يراهن فرقاء على إمكان ظهور ملامح رئيس جديد للبنان من خلف الدخان. ويراهن آخرون على أنّ ما ستؤول إليه الحرب من نتائج هو الذي سيحدّد مواصفات الرئيس. الجميع ينتظرون في لعبة عضّ الأصابع هذه، ويغيب عن بالهم أن الوطن، بصورته الحالية وبصيغته الراهنة، لا يملك ترف الانتظار ولا القدرة على التحمّل.