هي خطوة مخطئة يُقدم عليها العدو الإسرائيلي في لحظة تخلٍّ، ونكون قد دخلنا في الحرب الشاملة، وما يليها من خطوات لن يكون بمقدور أحد التنبؤ بما ستصل إليه.
طبول الحرب لم تُقرع في الأمس، بل منذ الثامن من تشرين الأول من العام الماضي. أمّا الحرب التي تختلف بطبيعة الحال عن المعارك الدائرة عند الحدود الجنوبية وفي العمق، أحياناً، فهي عند أول منعطف. فهل يعي من يقود الجبهة أن دعسة ناقصة قد تشعل المنطقة وتدفع بالجميع إلى الصدام الحتمي.
على ضراوة المعارك الدائرة عند الحدود الجنوبية، وعلى وقع التهديدات الإسرائيلية بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، وفي ما يحصل في غزة صورة دالّة على ما يمكن أن يصبح عليه لبنان، في ظلّ استقالة دول العالم من دورها في منع النزاعات وضبطها والحد منها من خلال المنظمات والمؤسسات المعنية بالعلاقات الدولية. يبقى الأخطر من كلّ هذا، مستوى الانقسام الداخلي اللبناني، وهو انقسام عمودي أفقي طائفي حزبي بأبعاد متعددة ومختلفة.
عندما يحصل خلاف في البلدان الديمقراطية على الخيارات تتقدم الحكومة باستقالتها أو تُقال. وفي حال استعصاء التوصّل إلى قرار بشأن تشكيل الحكومة يمكن حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة. لنتيقن من حجم الأزمة المستعصية التي يعيشها لبنان، يكفي التمعن في شغور موقع رئاسة الجمهورية منذ الأول من تشرين الثاني 2022، وفي حكومة تصريف الأعمال التي تسلّمت دفّة السلطة التنفيذية عقب انتهاء ولاية الرئيس، في حين يقاطع جلساتها قسم من الوزراء على اعتبار أنها غير دستورية، وفي ولاية مجلس نيابي جديد لم يعطِ حكومة جديدة ثقته، ويتعامل مع حكومة لم يمنحها الثقة، وهي حكومة تصريف أعمال في المقام الأول. وهو المجلس الذي يعجز عن انتخاب رئيس جديد للبلاد نتيجة الانقسام الحاد وتلويح الفرقاء بتطيير النصاب حتى قبل الدعوة إلى جلسة للانتخاب.
هو شلل مؤسساتي ينسحب على القطاعات كلّها. فهذا الانقسام السياسي الحاد، وفي لبنان كثيراً ما يرتدي الانقسام السياسي لبوساً طائفياً، يترافق مع انهيار مالي واقتصادي منذ تشرين الأول 2019، تمثّل في تدهور العملة الوطنية وضرب القطاعات الإنتاجية وحجز ودائع المواطنين في المصارف المحلية. وما أعقب هذا الانهيار من تداعيات شملت مختلف أوجه الحياة. ولا بد هنا من التنويه بأنّ جميع هذه التطورات أعقبت أزمة جائحة كورونا التي لم يكد لبنان يتعافى منها حتى عاجله انفجار مرفأ بيروت، الذي وُصف بأنّه أحد أقوى الانفجارات غير النووية في التاريخ.
وعند الحديث عن الواقع اللبناني، ومن دون العودة إلى تاريخه مع الحرب الأهلية، واللجوء الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، والمعارك الحزبية، والأطماع الخارجية، لا يمكن تخطّي أزمة النزوح السوري، إذ يقارب عدد النازحين السوريين في البلاد نحو ثلث الشعب اللبناني، وهذا ما يجعل لبنان من أكثر البلدان اكتظاظاً بعدد السكان مقارنة بمساحته. ولا يمكن مقاربة ملف النزوح السوري من دون الأخذ في الاعتبار الواقع الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه.
هناك من يريد أن نستسلم لإرادة الخارج في ما يقرره لنا ويرفض التلاقي مع الداخل حول مشروع وطني نصوغه معاً لما فيه مصلحة الوطن العليا...
بقراءة متأنّية في مسار الوضع الداخلي اللبناني، من الممكن استنتاج أن كلمة كارثي لا تكفي لتوصيف الواقع. فإذا أضفنا إلى جميع هذه المعطيات أزمة النزوح الداخلي من المناطق الجنوبية الحدودية إلى العمق، مع ما يحكى عن تدمير شمل آلاف المنازل والمؤسسات وضرر فادح لحق بالأراضي الزراعية والأحراج، نصبح قبالة مشهد من المتعذّر تخيّله. ولكنه واقع. وهو واقع يشهد حياة طبيعية في مناطق لبنانية أخرى حيث الحفلات الفنية في بيروت تحظى بإقبال منقطع النظير، علماً أن أسعار بطاقات الدخول إليها تبدأ بمئتي دولار فصاعداً. نجوم من مصر وغيرها يأتون فتمتلئ المدرجات والساحات بجماهير حاشدة، يكاد هتافها يغطي على أصوات القصف في الجنوب. فما بالك بما يجري خلف الحدود بعيداً في غزة وأخواتها. الإعلانات الترويجية للمهرجانات الصيفية تغزو الجدران. يغصّ مطارنا باللبنانيين العائدين من الخارج لتمضية عطلة الصيف مع الأهل. تنتعش المناطق التي كانت شبه مهجورة في موسم اصطيافي واعد. تحتاج البلاد إليه لما يوفّره من عملات أجنبية، ولتحريكه عجلة الاقتصاد. مشهد مطار رفيق الحريري الدولي يكتظ بالمغتربين القادمين رغم التهديدات الإسرائيلية والأكاذيب التي يروّج لها بعض الإعلام، مقابل ما تشهده مطارات الاحتلال من موجات مغادرة.
إنّها الحرب، ونحن نرقص. نختلف في تقييم ما يجري وسبل التصدي له. نرفض التلاقي ونرحب بالانقسام والتقسيم. منفتحون على العالم، منغلقون في الداخل، كلٌّ على نفسه. نرفع الحواجز بيننا وندعو إلى تقبّل الخارج والتصالح معه. بين منطق يرى قوة لبنان في ضعفه وفي انتظاره شرعية دولية تستقوي على الضعيف وترضخ للقوي. نريد من العالم أن يساعدنا رغم أننا نرى عجز هذا العالم عن وقف المجازر المستمرة في فلسطين، بل نرى هذا العالم الذي يحلو لنا الرهان عليه يمدّ عدونا بالسلاح ويفتح له مستودعاته ليأخذ ما شاء من ذخائر، في حين لم ننل نحن من هذا الخارج حتّى ما وعدنا به من تسهيلات لاستجرار الغاز والنفط عبر الحدود السورية بحجّة العقوبات.
لا بدّ من التوافق على أنّ المشكلة ليست في التصدي لجيش الاحتلال وتهديداته. المشكلة تكمن في وجود الاحتلال على أرضنا وتسليمنا بوجوده وبضرورات أمنه على حساب أمننا. تسليمنا بحقّه في الوجود ولو على حساب وجود شعب بأكمله. إيهامنا بأنّه لا يُقهر، وأن علينا تقبل همجيته وإجرامه واحتلاله ليس لشيء إلا لأنه يحظى بدعم دولي وبتغطية لجرائمه. هناك من يريد أن نستسلم لإرادة الخارج في ما يقرره لنا ويرفض التلاقي مع الداخل حول مشروع وطني نصوغه معاً لما فيه مصلحة الوطن العليا، ولو كانت على حساب الجماعات والأفراد.
يليق بنا الاحتفال بواقعنا، ولا بأس بحضور حفل من هنا، ومهرجان من هناك. إنّه بصيص أمل نحتاج إليه من أجل مواجهة الصعاب. ولكن الأمل يتطلّب العمل والمثابرة والاستعداد لمواجهة القادم علينا من أزمات ومصاعب. ونقول مع القائل: اليوم خمر وغداً أمر، فهل أعددنا عدّة للغد المرتقب؟