يقول المثل: لا صاحبَ لكَ إلَّا بعد "قتلة".

"القتلة" لم تقع. حاشا وكلَّا، فلا أنا داني لانش ولا هو برنس كومالي (بطلا مصارعة حرة من زمن غابر).

كلُّ ما في الأمر أنَّ نقاشًا دار كنَّا فيه، الدكتور عبده لبكي، وكاتب هذه السطور، على طرفي نقيض، ذات سهرة في منزل قريبٍ لي، جمعت وجوه سياسة وأدب وقضاء وإعلام، في بعبدات. وقد بلغ ارتفاع صوتي أنا، على الأقلِّ، إلى الجوار القريب والبعيد، مما اضطُرَّ صاحبَ الدَّعوة، إلى أن يجعلَنا نكمل السَّهرة الصيفيَّة، داخل غرفة، شبابيكُها مُحكمة الإغلاق.

تودَّعنا على أنَّ الخلاف لم يفسِدْ في وِدِّنا الأوَّل قضيَّة. ورحنا مذذاك نلتقي.

لقاءً تلوَ لقاء، كنت ألمس هدوءه بعينيَّ. كنت أحبُّ معارضتَه لي في موقف، لأنَّه ينتقد بلا تجريح. فرض نفسه عليَّ وعلى آخرين، بغرائبيَّة ما يكتب بداية، ومن ثَمَّ في عمقه وإنسانيَّته الطَّاغية.

لم يكتفِ بأن يكون شاعرًا، بل اجتهد ليكمل طريق يوسف الخال، في جانب من تلك الفورة الثَّقافيَّة الَّتي طبعت نهاية خمسينات القرن الماضي، مرورًا بستِّيناته، وصولًا إلى اليوم.

ووسط تلك الدَّعوة إلى لغة عربية حديثة، صُدم بما آلت إليه حال اللُّغة العربيَّة الأمِّ. فكتب: "لقد فات النَّاس في عصر العولمة هذا، وتحت وطأة المجتمع الاستهلاكيِّ، أنَّ اللغةَ هي العقل. فجميع قوانين المنطق كامنة في اللُّغة، مفرداتِها، ومدلولاتِها، وأساليبِها، وقواعدِها، وبُناها، وسياقاتِها، وتراكيبِها، وصيغِها... وعليه، فإنَّ كلَّ إتقان للُّغة، هو تجاوز لأسباب التَّخلُّف، وبلوغ للعقل. بل هو "التكنولوجيا" في مفهومها الحقيقيِّ، الَّذي يعني التَّصرُّف بالمادَّة، بواسطة من الصُّور الذِّهنيِّة والمجرَّدات. باللُّغة كما يقول "هيغل" الفيلسوف الألمانيُّ، نستطيع أن نستوعبَ العالم، ونُعيد صياغته، في ديناميَّة التَّطوُّر. إلَّا أنَّ البعض، ويا للأسف، يعتبر اللُّغة اليوم وسيلة نقل للحاجات الآنيَّة، أي لما هو من ضرورات الاستهلاك وحسب"!

أمَّا في الشِّعر، فما قصيدتُه إلَّا هدوؤه هو. كلمات قليلة، صور مزدحمة، منحوتةٌ على مهَل، تجريد ورغبة في الغموض، لكنَّ الدِّلالات كثيرة. فيما العبثيَّة في قصيدته، كثيرًا ما تلعب على رمزيَّة الفراغ.  

لا تعنيه القفلةُ، ولا التَّصفيق حين يفرَغ من إلقاء. فهُو لا يُقرأ بالأكفِّ، إنَّما يُغاص، يُسبر، يُكتشف، يُشفُّ، بما يجمع بين العقل والنَّفس.

ولعلَّه في القصيدةِ بالنَّثر وما بعد الحداثة، الَّتي كان من روَّادها، قد تميَّز عن آخرين، بأنَّه، فيما هم يتصدَّون للقضايا الوجوديَّة والماروائيَّة والعبثيَّة، يقبِض هو على يوميَّاتٍ لم تكن يومًا مادَّة للشعر، فأصبحَتْه، وكان هو السَّبَّاق إلى هذه التَّجربة، وباتت تجربتُه مدرسة.

لكنَّه لم يطلِّق الكلاسيكيَّة الَّتي له فيها أيضًا خطٌّ مختلف. يكره التَّقليدَ والكبرياءَ والسُّخف والزَّيْف، ويمتشق سيفَ الأصالةِ والتَّواضع، وهما سِمةُ شخصيَّته.

هو شاعر وأديب وأستاذ محاضر في اللغة العربية، ابن بلدة بعبدات المتنية. له مقالات كثيرة في اللغة والتعليم والقيم، وهو مؤسس "دار الإبداع للنشر والتأليف". أصدر دواوين شعرية بالفصحى والعامية، أبرزها: "كتابة على جدار"، "قمر يسكن النافذة"، "هكذا منذ البدء"، "لأنَّك وحدك حبيبتي"، "حبك زنبقة الظلمة"، "شمس طالعة من هجرة الطيور"، "الرَّصِّيف وقمح الآلهة"، فضلًا عن سلسلة كتب مدرسية وقصص للأطفال والناشئة.

وقعتُ على قصيدة له تحت عنوان "مات الضمير"، هي ترجمة لشذرات اعتراف وقلق عبر عنها، وقد آلمه طغيان الأنا، وخشي سحق الآخر، في اعتراف بوجوه ثلاثة لا أقنعة لها: الأول هو الاعتراف بالآخر، وكم فيه من نبل وسمو، سبيلًا إلى المصالحة والسلام؛ والثاني هو الاعتراف بالحق، والحقيقة، وكلاهما يقبع في المكان المضيء من الذات؛ والثالث الاعتراف بالخطإ، ومن دونه ينكسر كل تطور وصلاح، وينعدم كل بناء.

يقول لبكي في القصيدة:

ماتَ الضميرُ

وما أحدٌ حملَ نعشَه

كانت له آمالٌ تساقطت جميعُها

قبل أنْ تنضجَ

هو لم يكن يفعل غيرُ الجلوس

أمام العالم

مُصغيًا إلى ضجيجِه

أحيانًا كان يخرجُ ليصطادَ سمكة

أو يستجدي فقط

فيعودُ خائبًا

وشى به البشر عندما بنى مركبًا

لِلأرواح الهائمة

فأودع الظُّلمة

وقبل أنْ يموت وهب عينيه

لِمَن يُريد أنْ يرى

وبقي صوتُه الرّخيم مُعلّقًا

في أُذُن مَن يستسيغه!

وفي ما سبق ترى عبده لبكي يثور على الشر المستشري في الحياة، والذي يفتعله الإنسان لجشع متأصل فيه، وهو عارف أنه يخالف ناموس الطبيعة، ويثور أيضًا على الحياة لأنها ناقصة ولربما أرادها كاملة لكي يعيش وهو في غنى عن أي سعي وأي صراع. ويسأل: أليست هذه حرية بلا حدود؟

لعلَّه في القصيدةِ بالنَّثر تميَّز عن آخرين، بأنَّه، فيما هم يتصدَّون للقضايا الوجوديَّة والماروائيَّة والعبثيَّة. يقبِض عبده لبكي على يوميَّاتٍ لم تكن يومًا مادَّة للشعر، فأصبحَتْه، وكان السَّبَّاق إلى هذه التَّجربة، وباتت تجربتُه مدرسة. لكنَّه لم يطلِّق الكلاسيكيَّة الَّتي له فيها أيضًا خطٌّ مختلف.

وللرمز في فكر عبده لبكي مكانة بارزة، خصوصًا في كتابه "لكيما جسدٌ قديمٌ لنا يتحرَّر"، فأطلق صرخة، ليثورَ على الخطيئةِ "جرح الشعب المشرقيّ وعلّة شقائه التي أثارت التشرذم"، وتجلّت في موضوعاتٍ، من مثل الخيانة، والحرب، والفوضى، والتهجير، وانعدام الرحمة. وإذ كنهَ التحرر من اللحمِ، ودعا إلى خلع القميصِ الجسديِّ القديم وارتداء الجسد الروحانيِّ الجديد، أكد أن لا سبيل للخلاص والانعتاق من بطش الخطيئة إلا بالتوبة والرجوع إلى الله.

وثمة من رأى أن لغة النصّ الشعرية تنقلنا عبرَ التاريخ بين حاضرٍ وقديمٍ، فتنشرُ ومضاتٍ حيّةً مشتعلةً على امتداد الزمن وعلى أفواه أنبياء، خطّوا الحاضر ورسموا المستقبل رؤية وتحرّرًا. وثمة ارتباطٌ وثيقٌ بين رؤيةِ عبده لبكي الذي يرثي المشرقيين الرازحين تحت نير الخطيئة في هذا الديوان، ومراثي إرميا في العهد العتيق، على ما لاحظت يارا سلوم في حوار معه.

تابع عبده لبكي طرح الراحل يوسف الخال مسألة اللغة، في محاضرته "نحن والعالم ‏الحديث"، ضمن مؤتمر روما عام 1961، وقد عدَّها الخال من أبرز الصُّعوبات التي ‏تواجه الأدب العربيّ، وتقف حاجزًا أمام تحديثه، بسبب الازدواجيّة التي تعانيها، إذ ‏إنَّنا "نفكِّر بلغة، ونتكلَّم بلغة، ونكتب بلغة"، ممّا يعني - على الصَّعيد العمليّ- انفصال ‏الأدب العربي عن لغة الحياة اليوميّة. الطرح ما زال قائمًا، طرحه الخال، وعمل عبده لبكي على إكماله.

وقد خلص لبكي إلى أن اللغة "مسكينة يتنكر لها إنسان اليوم، وفضلها عليه منذ وجد لأجل استمرارية أمينة، واضح القسمات، بل عميق الأخاديد في وجه الحضارة المقصورة على البشر دون سائر الكائنات. أليس ان المتخلفين من البشر يُنعتون بالتوحش، لتأخر عندهم، عن بلوغ اللغة مرحلة النضج، وتعثر مسيرتها في اتجاه الرقيّ!؟" لا بل، حسب اللغة، بالنسبة إليه، ليست مجرد مادة إضافية من مواد التعلم، تزاد على المعارف، وتستقر في خزانة هامشية، لا دور لها غير الابقاء على ما لا حاجة بنا إليه. اللغة فعل وجود بين الأنا والآخر ليس في ممارسة الحياة اليومية فحسب، إنما أيضًا عبر أمواج الزمن وترسباته ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا في تدرجية الارتقاء اللامتناهي.

عبده لبكي في منزله الأقرب إلى قصر في أعالي كسروان، زاهدٌ هذه الأيام. يرى أننا في "نهاية الأزمنة"، في "الأبوكاليبس"، كما أسرَّ لجوزف عيساوي، منتظرًا عالمًا جديدًا يولد، يستمرُّ ألف سنة، من السلام والخير!