ترتفع بين الحين والحين أصوات ترفض العيش المشترك. كما ترفض التعايش أو المساكنة. وتقابلها أصوات يبدو كأنّها تدعو الطرف الآخر إلى بيت الطاعة. وما بين هذا وذاك، يستمر النزاع الوطني الداخلي، ويتواصل بشكل أكثر خطورة على مستقبل البلاد وديمومتها حتّى من الحرب الدائرة عند الحدود اللبنانية الجنوبية.
يحذّرك بعض الداخل اللبناني من مغبة التعرض لبلد هنا أو لبلد هناك. يحذرونك من الإساءة إلى علاقات لبنان بالدول العربية والغربية. وهو تحذير محق لما له من انعكاسات سلبية على واقع المواطن المقيم والمغترب. ولكن الحرص على علاقات لبنان الخارجية لا يمكن أن يستقيم إلّا مع الحرص على العلاقات الداخلية بين اللبنانيين أنفسهم. فهل ندعو إلى الانفتاح على العالم ويقفل بعضنا أبوابه في وجه بعض؟
يفاخر فريق بقدرته على تحقيق ما عجز الآخرون عنه، "نحنا بدّنا ونحنا فينا". فإن كنّا نريد العيش في وطن واحد موحّد فلا بد من أنّنا نستطيع تحقيق ذلك، أقلّه من رفع شعار "نحنا فينا"، إلّا إذا لم يكن يرغب حقيقة في ذلك.
"نحنا فينا" بمعنى نحن نستطيع، شعار يدفع كل إنسان، بل كل مواطن، إلى الإيمان بقدرته على تحقيق المستحيل. الإيمان بالقدرة على صناعة التغيير هو ما نحتاج إليه فعلاً في لبنان. ولكن الأزمة تكمن في أننا نستطيع أن نفعل كل شيء، حتى المشكلات، من دون أن نجد حلاً لمشكلة واحدة من جميع المشكلات التي تعترض النهوض بالوطن.
"فينا نعمل كل شي بس ما فينا نعيش سوا". هذه هي المقاربة المتعارضة مع ما نستطيع فعله، وما لا نستطيع تحقيقه. الواقع أنّنا نستطيع أن نقول الكثير، وأن نفعل القليل القليل. "ما بيشبهونا"، ولم يعد الأمر في رفض العروبة والتمسك بالجذور الفينيقية كما كانت الحال قبل اتفاق الطائف. فالانفتاح على العالم العربي في وضعه الحالي أصبح مطلباً، والانتماء إلى العروبة أصبح حاجة في مواجهة المدّ الفارسي. من الواضح أنّنا نستطيع أن نغير ما كنا عليه إلى ما أصبحنا فيه. المهم شدّ عصب الجماعة في مواجهة الجماعات الأخرى.
تجدنا ننتظر مبادرة من هنا، ورعاية لحوار أو تشاور من هناك يستضيفه الخارج، بكل ما يعنيه هذا الأمر من انتقاص لدورنا في إدارة شؤوننا السيادية والداخلية. نرفض التلاقي من دون عوامل ضغط. ولكننا نأمل أن نعيش بعدها مستقبلاً واعداً. نرفض الحوار، اليوم، على أننا نأمل أن نستأنفه غداً. نريد انتخابات رئاسية في ظلّ الخطوط المقطوعة بين الفرقاء، إن لم نقل التراشق والتخوين، ونراهن على أنّنا ما بعد الانتخابات سنعيش حياة وردية.
"نحنا بدنا ونحنا فينا" جاء كرد على مقولة "ما خلّونا"، وما دام شعار "نحنا فينا" لم يحقق إنجازاً واحداً على أيّ صعيد، لا بدّ من محاولة تفسير "ما خلّونا" من حيث قدرة الآخرين على التعطيل. فهل هناك من يستطيع تحقيق أي أمر من دون موافقة الفرقاء الآخرين ودعمهم؟ ما دام الواقع يؤكّد استحالة الإنجاز بشكل منفرد أو منعزل، فالمسألة، إذاً، تحتاج إلى لمّ الشمل والعمل على تشجيع الآخرين على المسير بما فيه خير المجتمع والوطن. ولن يحصل هذا إلا بالتلاقي والعمل على النقاط المشتركة للبناء عليها بدل التلهي بعوامل الاختلاف.
إنها حالة الانعزاليين الجدد الذين ينفتحون على الخارج ويرفضونه مع الداخل، ويرفعون شعار الفيدرالية التي يرون فيها ما يغنيهم عن العيش مع الآخر المختلف.
الرئاسة ليست نهاية المطاف بل هي بداية الطريق لكسر العزلة والانعزال.
على الضفة الأخرى، يحضر دعاة "الحوار بالإكراه". لا انتخابات من دون حوار. تظن للوهلة الأولى أن الحوار هو وجه من وجوه التوافق والتلاقي. فتجده حواراً ينطلق من ثوابت لا تراجع عنها، وبالتالي هو حوار لا يقوم على قاعدة الربح للجانبين. هو دعوة إذاً إلى نقاش قد يصفه البعض بأنه "عقيم" إذ لا يُرتجى منه أي تغيير حقيقي من جانب الداعي إليه نفسه. وتلك معضلة أو أحجية غير قابلة للحلّ.
فما هو هذا الحوار الذي يرفض الداعي إليه تقديم التنازلات للوصول إلى تفاهم. فكل حوار أو تفاوض يتطلّب تقديم تنازلات متبادلة. ومن المعروف أن من يملك هو من يتنازل، فلا يمكنك أن تطلب ممن لا يملك أن يتنازل لك.
حوار ينطلق، يا للأسف، من مبدأ القدرة على التعطيل والإمساك بكل مفاصل الحلول، ويطلب إلى الآخرين المشاركة مع علمهم المسبق أنهم سيخرجون من "المولد بلا حمّص".
يستطيع دعاة الحوار أن يتمسكوا به كشرط لأيّ خطوة لاحقة. ولنفترض أنّ الحوار حقق الغاية منه بحسب ما يشتهون، فماذا عمّن حضر إلى الحوار راضخاً أو منكسراً؟ هل يمكن الرهان على نتائج سليمة بين فريق رابح وفريق مهزوم؟ هل يمكن أن يُعتبر انتصاراً وصول رئيس يعدّه فريق وازن من اللبنانيين مفروضاً عليه فرضاً؟
في ظل التحديات الاقتصادية التي تعيشها البلاد على إيقاع الانهيار المالي والنقدي، وعلى وقع القصف الإسرائيلي الذي لم يبقَ محصوراً في المناطق الحدودية، ومع كلّ ما يصدر من تهديدات بتوسعة الحرب على لسان قادة العدو أو المبعوثين الدوليين، لا يمكن الرهان على "حوار بالإكراه" لتوحيد الشعب بكلّ مكوناته من أجل الوقوف صفاً واحداً في وجه التهديدات. كذلك لا يمكن حلّ الأزمات المختلفة من خلال الانسياق خلف دعوات "الانعزاليين الجدد". الرئاسة ليست نهاية المطاف بل هي بداية الطريق لكسر العزلة والانعزال، ولا نريدها طريقاً مسدودة مع أول خطوة.