لبنان مجتمع مركّب من مكوّنات طائفية ظاهرها ديني وواقعها ثقافي- اجتماعي وانعكاسها سياسي، إذ إنّ هذه المكوّنات، وإنْ كانت طائفية من حيث تصنيفها أو فرزها، تجسّد هوية مجتمعية قائمة على عادات وتقاليد أكثر منها على مفاهيم لاهوتية وفقهية. فالمعيار في أيّ مكوّن لم يكن يوماً مدى التزام الفرد المسؤول هذه المفاهيم بقدر ما كان امتلاكه حيثية ناجمة عن مكانته الطبقية - وهنا كان دور الإقطاع والبيوتات السياسية - أو قوته الذاتية القائمة على النفوذ والالتفاف الشعبي حوله أو القدرات المادية والمالية.
يكفي طلب "إخراج قيد عائلي" للطبقة السياسية للاطلاع على طبيعة الزيجات المتداخلة بين الطوائف عندها، مع العلم أنّ على المرء وفق المنطلقات الدينية أن يقترن بشريك من دينه. فالزواج هو "سرّ مقدس عند المسيحيين" وعند المسلمين لا يجوز للفتاة الزواج من خارج دينها - وإن كان مرحباً به لدى الشباب - أمّا عند الدروز فباب الدعوة إلى الإنضمام الى طائفة الموحّدين مغلق. فها هو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يحمل الشمعة مشاركاً في التطواف خلال عمادة حفيدته في دير مار أنطونيوس قزحيا، فيما النائب غسان عطالله يحضر عقد قران ابنته. أمّا حفل زفاف ابنة القيادي في "حزب الله" النائب السابق نوار الساحلي من اللباس إلى الموسيقى والرقص وصولاً الى "التيكيلا" فيعكس تفوّق إطار الساحلي الاجتماعي على انتمائه السياسي.
هذا الواقع المرتبط بالمكوّنات الطائفية ينطبق أيضاً على ما اصطلح على تسميته بـ"المارونية السياسية" قبل "الطائف" التي، وإن اختلف بعضهم على خياراتها -السياسية الإستراتيجية أو في لعبة المحاور - بَنَتَ دولة ومؤسسات ولم تعمل لوطن مسيحي وهذا ما أثبتته الوقائع والأيام. كما كان أتباعها من الساسة مسيحيين وكذلك مسلمين ممّن يمثّلون في طوائفهم من الرئيس كامل الأسعد الى الرئيس صبري حمادة، لا زعامات "مصطنعة".
أمّا بعد "الطائف"، فالأمر ينطبق على "الحريرية السياسية" التي قادت مسيرة الإعمار – وإن لم تخلُ من الإهدار أو الفساد أو الزبائنية - ولم تسع إلى تحويل لبنان إمارةً سلفية. مجحف من ينعت هذه الحريرية السياسية التي انتهت حقبتها باغتيال مؤسسها الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005 بـ"السنّية السياسية"، لأنّ من كان يحكم لبنان في تلك الفترة هو "الأسدية السياسية" والعسكرية والأمنية التي لزّمت الشق الاقتصادي للرئيس الحريري وفق نظام بوت (BUILD OPERATE TRANSFER).
أمّا بعد الانسحاب السوري في 26 أيار 2005، فبدأ عهد "الشيعية السياسية" مباشرة لملء الفراغ الذي خلّفه طيّ صفحة "حكم عنجر". هذا ما أكّده النائب نواف الموسوي لـ”دايلي ستار” في 18 حزيران 2005: "الحزب اتخّذ قراره بملء الفراغ الناجم عن الانسحاب السوري ووضع حدّ لقوى الغرب، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا من ممارسة تأثيرها على الشؤون الداخلية اللبنانية".
اضطر "حزب الله" إلى الدخول شخصياً إلى الحكومات بعد استحصاله على فتوى من العلامة الشيخ عفيف النابلسي وفق ما ذكرت "السفير" في 7 حزيران 2005، إذ "منح الموافقة الدينية والشرعية على مشاركة حزب الله في الحكومة. فإنّ الوضع السياسي الراهن ينزع أيّ محظورات على مشاركة حزب الله إذ إنّ أحد معتقدات مقاصد الشريعة ينصّ على حماية المقاومة كنتيجة طبيعية لحماية القانون والنظام في المجتمع اللبناني"، مضيفاً: "حماية القانون والنظام تشكّل تكليفاً شرعياً بغية الحؤول دون وقوع الفوضى والغبن ومنعها من تمزيق المجتمع اللبناني وصدّ إسرائيل عن مهاجمة لبنان".
تتميّز "الشيعية السياسية" بصفاء مذهبي غير مسبوق حاصدةً 95% من أصوات الطائفة الشيعية في الانتخابات النيابية. أمّا من يدورون في فلكها من المذاهب الأخرى فهم إمّا "مصطنعون" دخلوا ساحة النجمة بفائض أصواتها أو في أحسن الأحوال أصحاب تمثيل "هزيل" في طوائفهم على عكس ما كان حاصلاً في زمن "المارونية السياسية".
وبعكس "المارونية السياسية" تشكّل "الشيعية السياسية" نموذجاً عن الانفصام الكلي عن كلّ ما يمتّ إلى بناء الدولة. فهي تتفنّن في ممارسة التعطيل عند كلّ استحقاق لتحقيق مآربها، من السعي إلى تعطيل المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عبر استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة في 11 تشرين الأول 2006 مروراً بإغلاق مجلس النواب من قبل الموقع الرسمي الشيعي الأرفع أي رئيس مجلس النواب نبيه بري منذ العام 2014 وصولاً إلى انتخاب مرشح "حزب الله" الأول يومذاك العماد ميشال عون عام 2016 مع توزيع أدوار مدروس بين "الثنائي" أي "الحزب" و"الحركة"، وصولاً إلى تكرار السيناريو، اليوم، إذ مضت سنة على آخر جلسة دعا إليها بري في 14 حزيران 2023. تعطيل لم نشهده يوماً في زمن "المارونية السياسية" التي رضخت على سبيل المثال لوصول شهابيين إلى قصر بعبدا.
بعكس "المارونية السياسية" تشكّل "الشيعية السياسية" نموذجاً عن الانفصام الكلي عن كلّ ما يمتّ إلى بناء الدولة.في الأمن والعسكر، تمتلك "الشيعية السياسية" السلاح بحجّة محاربة إسرائيل ولا تتورّع عن استخدامه في الداخل مثلما حدث مع استباحة بيروت في "7 أيار". كما تهوّل على المؤسسة العسكرية الشرعية وإعلان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله أنّ مخيم نهر البارد "خط أحمر" - خلال محاصرة الجيش له تمهيداً لاقتحامه عام 2007 - نموذج.
في المال والاقتصاد، انهيار غير مسبوق كان لـ"الشيعية السياسية" دور ريادي فيه، فلم يساءل أحد أبرز وجوهها وزير المال يومذاك النائب علي حسن خليل عن الأرقام المخطئة التي أعطاها عشية سلسلة "الرتب والرواتب" التي شكّل إقرارها لحظة الانهيار عملياً.
في زمن "الشيعية السياسية"، وجه لبنان الاقتصادي وقطاعه المصرفي في مهبّ المجهول بعدما تحوّل معقلاً عالمياً لتبييض الأموال والقضاء يستباح من قلب قصر العدل الذي اقتحمه القيادي في "حزب الله" الحاج وفيق صفا مهدّداً المحقّق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت.
الخطير والأكثر فجاجة، ضرب مبدأ فصل السلطات وقضم "الشيعية السياسية" عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري صلاحيات رئاستي الجمهورية والحكومة. فعلى سبيل المثال، فاوض بري، وهو رئيس السلطة التشريعية، 10 سنوات على مسألة "ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل" (بحسب تعبيره) وبعدما توصّل إلى اتفاقية إطار دعا رئيس الجمهورية إلى متابعة الأمر، أي إلى "الصورة"، لأنّ ما كتب قد كتب. لقد قضم صلاحية رئيس الجمهورية المعني بإبرام الاتفاقات الدولية كما طمس حقوق النواب حين رفض العريضة النيابية المطالبة ببحث الترسيم في مجلس النواب كونه اتفاقية. مثل آخر حدث أخيراً، إعلان وزير الثقافة في حكومة تصريف الاعمال محمد وسام المرتضى في 5 حزيران 2024 أنّه تابع، بناء على تكليف من رئيس مجلس النواب نبيه بري، موضوع آثار ذات قيمة نادرة مغمورة في البحر في المنطقة الاقتصادية الحصريّة المقابلة للبنان في الموقع (SD 71) . وزير في السلطة التنفيذية يعمل بناء على تكليف من رئيس السلطة التشريعية!
لكن الأخطر، للمرة الأولى في تاريخ لبنان، هو أن معادلة "المكوّنات الطائفية ظاهرها ديني وواقعها ثقافي- اجتماعي وانعكاسها سياسي" مهدّدة أمام ظاهرة "الشيعية السياسية" إذ يتصاعد البعد الديني الأيديولوجي في واقع المكوّن الشيعي على حساب الهوية الثقافية المجتمعية التي تشهد متغيرات مقلقة مع أرجحية "حزب الله" على باقي تركيبات هذا المكوّن. هذه الظاهرة إن لم يتمّ ردع بُعدها الديني الأيديولوجي فستشكّل تهديداً حقيقياً لتركيبة لبنان التعددية الطائفية ذات الوجه المجتمعي الثقافي لا الديني العقائدي. فهل من يتنبّه إلى خطورة الأمر؟!