أحيا فيَّ الاحتفالُ الذي أقيم في المركز الثقافي في عاليه، برواية الكاتبة سوسن الرَّمَّاح "ذاكرة الأنا"، ذاكرتي أنا.
فهنا، على بعد خُطْواتٍ قليلة، وكثيرِ ذكريات، كان بيتُنا الصيفي، بين عامي 1966 و1970.
إلى هنا، إلى عاليه، عدت بعد أربعة وخمسين عامًا، و"عينُ عدس" (الحي الذي سكنَّا فيه) في قلبي وعيني. منها، من حافَّةٍ كانت تحدِّد الطريق إلى أوتيل الجبيلي، كنتُ ألجأ وأترابًا لي، لنشاهد في بيسين عاليه، عمالقة الطرب والغناء الذين استقطبتهمُ العاليةُ الغالية، وكانت لهم الحلمَ والفاكهةَ المشتهاة. وبعيني الصغيرة، حجمَ حبَّة عدس، رأيتُ، ولو من بُعد، فريد الأطرش، نجاة الصغيرة، عبدالحليم حافظ، ووردة الجزائرية في بداياتها... و"خليك هنا خليك" حين صدحت بها وكان فريد الأطرش يهم بمغادرة حفلتها، فمكث إلى آخر الحفلة. رأيتُ كمن جمَّع كلَّ الفرح في عينيه، كمن قبض على غدٍ من ياسمين.
وفوقُ، على الطريق إلى رأس الجبل، لعبتُ على الملعبِ الرَّملي كرةَ القدم، وتعرفت إلى لاعبين كبار، فؤاد الصايغ، غالب حليمة، رياض الحلبي الذي سُررت بأنَّني حملتُ عنه، ذات نهاية مباراة، حقيبة أودع فيها حذاءه الرياضي... ونحن نترافق إلى منزله. هل من يذكر هؤلاء اليوم؟
وفي سوق عاليه، كنت أمضي، والعائلة، بعض أويقات، أو نقصِدُ مقاهيها ومدينة ملاهيها، برفقة أقارب هاجروا واغتربوا، وبقيت قلوبهم إيقاعًا لأشواقنا.
وهنا، كنت أَطربُ لحرفِ القاف، عدوِّ كثرٍ من مدَّعي المعرفة والثقافة والسياسة، وأُحسُّ أنني بين أهلي الذين عشِقوا المتَّة، وعمَّموا طقسَها الأرجنتينيَّ بيننا، وأستمتعُ بكركرة الماء في القرعة والبومبيجا... وأهنأ إلى لَياقة السَّيدة بَدرو، صاحبةِ الملك، الآتية من الباروك بمنديلها الأبيض الطويل، حتى ينابيع الأخلاق والرصانة.
في عاليه كنت أقدِّس كلَّ أحد، ليس في الكنيسة، بل في باحتها. أمَّا مذبحي فشرفةٌ أُطاوِلُها بعينيَّ، ولولا قليل لطاولتها بيدي. شرفة منزل أديب وسلوى حداد، أبو ملحم وأم ملحم... يمثلَّان لطفولتي وأمام ناظريَّ، لا على الشَّاشة... "يسعد مساكن".
أطوي صفحة ذاكرتي أنا لأتحدث عن "ذاكرة الأنا". أقيم الاحتفال بتوقيع الرواية وهي الأولى لسوسن الرَّماح، الكاتبة من ذوي الإرادات الصلبة، بعد كتابين لها في الخواطر، برعاية رئيس بلدية عاليه وجدي مراد، في حضور فاعليّات أدبية وثقافية واجتماعية توافدت من مختلف مناطق قضاء عاليه والجوار. تحدث في الاحتفال رئيس البلدية والإعلامي رئيس تحرير مجلة وموقع kamnews.net كميل عبدالله، وكاتب هذه السطور، ومؤسِسَة منتدى شاعر الكورة الخضراء ورئيسته الأديبة المهندسة ميراي شحاده الحداد، فصاحبة الرواية. وأدارته السيدة منيرة الدمشقي، وتخلّلته قراءة مقاطع شعرية بمشاركة الفنان فايز القاضي. ومنح الأمين العام لاتحاد الكتاب اللبنانيين البروفسور أحمد نزال، في ختامه، الرَّمّاح عضوية في الاتّحاد.
نجحت سوسن الرَّماح في هذه الرواية الصَّغيرة الحجم، في صوغ حبكة متماسكة متراصَّة، مشوِّقة في كثير من مقاطعها وفصولها. حبكةٍ مبنية على أحداث قد تكون واقعية، أو من نسج الخيال، لكنه الخيال الواقعيُّ المنطقي الذي لا مبالغة فيه.
ونجحت سوسن أيضًا في اعتمادِ لغة عربية سهلة وبليغة، لم يَشُبها أي خطأ، ملونةٍ بخواطرَ شاعرية، أضفت على السَّرد حيوية، وأبعدت عنه الجفاف.
لن أتناول مضمونَ الرواية، لأتركَ للناس متعة قراءتها. بل سأتوقف عند ثلاث فضائل فيها ركزت سوسن عليها، وثلاث رذائل أظهرتها ببراعة.
الفضيلة الأولى: الحبُّ والتضحية. بطلة الرواية هدى، التي حالت ظروفٌ دون ارتباطها بحبيب الصبا والشباب، ربيع، تتزوج من رجل أعمال وجيه في منطقته وفي البلاد، لكنه لم يكترث إليها، كامرأة، إنما عاش لاهثًا خلف المال والثروة. تحول حبُّها، إذا صح التعبير، إلى عائلتها، بِكرِها وشقيقتيه، فبذلت نفسها من أجلِهم، كأروعَ ما تكون صورة الأم.
وقد يكملُ ربيع، الحبيب، صورَة الحب والتضحية، بأنه ظلَّ أمينًا على عاطفته الجياشة حيال هدى، ولازمها في محنةٍ انهارت فيها، وكفَّر عن عجزه عن الاقتران بها، شابًّا، بوعدِه لها بأن تكون له، إذا ما تركت زوجها.
فضيلة الوفاء: تتمثَّل هذه الفضيلة بهدى وابنتها الصغرى حنان التي أصرت على الاقتران بشخص من غير دينها. فهدى، على الرغم من أنها بقيت على اتصال بربيع، وكانت تشك في سلوك زوجها منيف، لم تقدم على أي فعل يخالف قدسية الزواج. أما حنان فتحدَّت العادات والتقاليد وغضب والدها، واحتالت على الجميع لتتزوج من تحب، وفيَّة لحبهما، على الرغم من الجرح العائلي الذي خلفته.
فضيلة البساطة: وهي نقيض رذيلة الادعاء والبهرجة. عاشت هدى في قصر زوجها، مكتفية بأدنى حاجات الحياة، بعيدة من مظاهر الترف والغنى، وعلى خطاها سارت ابنتها حنان، راضية بالخبزة والزيتونة، وغير آبهة بثروة أبيها.
أما الرذائل التي ظهرتها سوسن الرماح لتفضح جوانب مفتعلة ومتصنعة من سلوك مجتمعنا، بسيداته ورجاله، وحتى جيله الجديد، فهي ثلاث أيضًا:
رذيلة الجشع إلى المال: وتتمثل بشخصية منيف، زوج البطلة هدى. غني وذو مكانة مرموقة في المجتمع. لم يكفِه ذلك بل راح يعمل لزيادة ثروته، على حساب الاهتمام بزوجته وأولاه. ونسجت ابنتُه الكبرى ميسا على منواله، فما اهتمَّت إلا بالزواج من قريبها، كي تزداد الثروة ثروة، وبقيت لصيقة بوالدها، وكل همها المال.
رذيلة الغدر: وقد تمثلت في حبيبة ربيع، ابن منيف وهدى، الذي يعمل طبيبًا، باختصاص مميز، في الولايات المتحدة. ما إن قرر الاقتران بها، واصطحابها إلى لبنان لتعريفها بوالديه ونيل بركتهما، حتى اختلف معها على أمر بسيط، أدى لاحقًا إلى أن انتقمت منه غدرًا.
رذيلة الخيانة: كانت شكوك هدى في منيف في محلها. فتعمُّدُه عدمُ الاختلاء بها أو اجتماعه معها تحت سقف غرفة واحدة، تُرجمَ ختامًا خيانة، جعلت هدى ترتدي معطفًا تحبُّه، هو كل ما أخذته من المنزل، وتتوارى.
ولك عزيزي القارئ أن تكمل الرواية.