مئةٌ وسبعة أعوام على ولادته. ثمانيةٌ وأربعون عامًا على استشهادِه، في الشبانية، في الأرضِ السَّماءِ التي عشِق.
فيلسوفٌ ملأَ العقل وامتشق الجُرأة والرُّؤية، قبل أن يشغل الناس.
فيسلوفُ لبنان، لقب يختصره.
عارفوه ودارسوه وقادروه كثر.
أما أجيالنا التي لم تعرفْه، فمناسبةٌ، في هذه العجالة، أن تدركَ من هي أولًا، وأيَّ إنسان هو اللبناني، وما هو لبنان، فتعرفَ كمال يوسف الحاج الذي "لبنن الفلسفة وفلسف لبنان"، كما كتب جورج طرابيشي في "معجم الفلاسفة".
كمال يوسف الحاج الذي ولد في مراكش (المغرب)، في 17 شباط 1917، اغتيل في 2 نيسان 1976، حين كان يجهد لإبعاد الاقتتال عن بلدته الشبانية، الواقعة في المتن الجنوبي. والغريب في الأمر أن جريمة اغتياله لم تسلك مجراها القضائي، وإن كانت المعلومات شبه المؤكدة دلت إلى مرتزق فرنسي هو الذي نفذها، وقد نشرت صورة المرتزق في مجلة "باري ماتش الفرنسية" وتعرفت إليه شقيقة الراحل.
حصل الحاج، حين عادت العائلة للاستقرار في لبنان، على شهادة الأستاذية في الأدب العربي من الجامعة الأميركية، وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة من جامعة باريس سنة 1950، وعين أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية. وعلى الرغم من عمره القصير، كان عطاؤه الفكري والأدبي وافرًا.
لوالده يوسف الحاج حضور آسر، لبنانيًّا وعربيًّا، فتأثر كمال به، خصوصًا في ثلاثة مسالك تراجع عنها الأب لاحقًا، ولم يعتنقها كمال: الابتعاد عن الدين، وانتماؤه إلى الداهشية التي وضع لها "دستورها"، والتحاقه بالماسونيّة.
ويمكن الجزم بأنّ كمال يوسف الحاج هو رائد الفلسفة اللبنانيّة، وسط مجتمع وبيئة ومناخ، كانت تؤثر، مطلع القرن العشرين، الأدب أو المحاماة على ما عداهما، ومن ثمّ العلوم.
ترجم كمال يوسف الحاج الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، إلى العربية، ثمّ شغف بالفيلسوف الفرنسي الآخر رينيه ديكارت، وأطلق تحدِّيًا بالقدرة على تلقين الفلسفة وتعليمها بالعربية. وكان لكبارٍ عايشهم وصادقهم، منهم المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون، مساهمة مهمّة في تحفيزه على السير في هذا التحدّي إلى خواتيم بعيدة.
رفض القومية العربية، مناديًا بالقومية اللبنانية المنفتحة على الأمة العربية والعالم، وتواجه "خطر الصهيونية".
خاض معركة اتخذت ربما طابعًا قوميًّا، وحتى طائفيًّا، لإدراج الفلسفة اللبنانية في منهج التعليم في الجامعة اللبنانية، وسط اعتراض البعض على أن لا فلسفة لبنانية خالصة، إنّما فلسفة عربية.
كان مشغوفًا بالخط العربي، وباللغة العربية التي أعطاها أبعادًا تتعلق بوجود الإنسان وغائيته، وعدّها ركنًا أساسيًّا في بنائه فلسفته القوميّة اللبنانية.
قامت فلسفته على القومية اللبنانية، متميزًا عمن سبقوه في طرح الفكر القومي اللبناني، كمثل شارل قرم وسعيد عقل ويوسف السودا، أو من تبنّوا هذا الفكر بعده. اعترف بأن هناك أمة عربية، منطلقًا من اعتباره الأمة تقوم على اللغة، في حين تقوم القومية على هيكل الكيان السياسي. ومن هنا رفض القومية العربية، مناديًا بالقومية اللبنانية المنفتحة على الأمة العربية والعالم، وتواجه "خطر الصهيونية".
كان له موقف من الطائفية في لبنان، وعدَّها ضرورة، واختلف في مقاربتها عمّا ساد طويلًا، وما زال قائمًا إلى اليوم، بضرورة نبذها واعتماد العلمنة أو الدولة المدنيّة. فرأى أن "علّة تسطيحنا في معالجة الطائفية أننا لا نأخذها إلَّا على محمل الوظيفة في الإدارة. فيما الطائفية هي الدين عينه، ممظهَرًا بنتائج سياسية ضخمة خطيرة، لا يمكن إلغاؤها من دون إلغاء هذه النتائج السياسية معها".
ولبنان، في نظره، يتألف، قوميًّا، من الإسلام والنصرانية، "فإما تجتاحنا ثورة كاسحة، يقوم بها زعيم فرد، فيُلغي لا الطائفية وإنما الدين، كي يقيم على حطامه دولة ملحدة، وإما نطبّق اللاطائفية بموافقة من الدينين الكبيرين. فلبنان لا يستطيع أن يقوم على دينين يتلاغيان. إما حذفهما، وهذا غير وارد، وإما الاستناد إليهما، شرط أن ينسجما في ما يتعلق بلبنان، من حيث وجوده القومي. إذذاك تصبح الطائفية بنّاءة". من هنا اشتق كمال يوسف الحاج كلمة "النصلامية"، الجامعة بين النصرانية والإسلام، والتي عدَّها سلاحًا لمواجهة الصهيونية.
ومن قال إن الاشتقاقات في اللغة، أو تأليف كلمات جديدة، هي حكر على الفلاسفة والمفكّرين؟ وهل تملأ فراغًا أو نقصًا في اللغة الأم؟ فكمال يوسف الحاج، بلجوئه إليها، كان يثبت قدرة اللغة العربية على أن تكون لغة فلسفة، وحتّى علوم، وكان يركز على أن شعبًا بلا فلسفة لا تأثير له في العالم.
ثمة واقعات أود التوقف عندها، طبعت حياة كمال يوسف الحاج القصيرة: واجه الدكتور داهش (العراقي الفلسطيني اللبناني سليم موسى العشي)، وهو صغير، حين اصطحبه والده للقائه، فكشف كمال له إحدى خدعه، الأمر الذي أغضب الرجل الذي وصف بالخارق. قرأت له رائية فرنسية مستقبله فتوقعت له الموت المبكر، في سن الستّين، مرتين، وهو اغتيل ابن ستين. أتقن العزف على الكمان وعشق الموسيقى الكلاسيكية؛ تزوج من السيدة المتألّقة هي أيضًا في حضورها وثقافتها وعملها، سيدة الأعمال ماغي الأشقر الحاج.
تناغَمَ الإيمان والعقل عند كمال يوسف الحاج طوال عمره، وقد أنهى شريط حياته القصير متصوّفًا وواعظًا في الكنائس. عُدَّ من شهداء الإيمان بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، بما يترجم رأيًا للمطران جورج خضر، هو أن كلمة شهيد أول ما أطلقت إنما على شهداء المسيحية الأول، بمعنى أنهم شهدوا للمسيح.
أطلقت جامعة الروح القدس - الكسليك "كرسيّ كمال يوسف الحاج للفلسفة اللبنانيّة" في 17 تشرين الثاني 2017، في مئويته الأولى. وهو أوّل كرسيّ جامعيّ على الإطلاق مكرّس للفلسفة اللبنانيّة. وأقيمت سلسلة ندوات ونشاطات طوال سنة كاملة، احتفاء بتلك المئوية، وخصصت جوائز لطلاب المدارس في مسابقات عن نصوص كمال يوسف الحاج.
وقد أكب نجله الدكتور في الفلسفة والفيزياء النووية يوسف كمال الحاج، على إنجاز مجموعة مؤلّفات والده الكاملة، في 14 مجلدًا، من ضمن "أسسية" على اسم الراحل الكبير، في عمل فردي قد تعجز عنه مؤسسات.
الكلام على كمال يوسف الحاج لا ينتهي، ولعل ما دُون على لوحة قرب أرزة مغروسة في غابة الشهيد في الطبرية (كسروان) على اسمه، من كتاب مخطوط عنوانه: "وكان يسوع المسيح"، يفيه حقَّه: "عزيزي ثاوُفيلوس... اللَيلُ في عِزِّهِ، والطبيعةُ في تَهْجَاعٍ... والصَمْتُ يُمَندِلُ الـمَعبَد... وقفتُ في ساحِهِ، بعدَ الصلاة، وَجهي إلى السَماءِ وظَهري إلى الأرض... تَحَوَّلتُ إلى إنسانٍ مُكَوْكَب. إلى نَسَقٍ من نور... إلى كَلِمةٍ من فَوقِ الكَلِمة".