ستيفان سيجورنيه، جان إيف لو دريان، جاسم بن فهد آل ثاني، وقبلهم ومعهم وبعدهم آموس هوكستين، و"اللجنة الخماسية" مجموعةً أو فرادى، واستقبالات الدوحة ولقاءات باريس وواشنطن، وأفكار واقتراحات ومناورات، وضربات سيوف في الهواء السياسي أو الماء الرئاسي أو العراء الجنوبي لا فرق.
كلٌهم وكلّها مجرّد دوران حول مركز الأزمة وطواف فوقها، ولا مبادرة لاقتحامها، سواءٌ في قلبها اللاهب في الجنوب أو وجهها الحار في بيروت.
وطالما أن المساعي تدور على السطح، أو حول قشرة المأزق، بدون النفاذ والاختراق نحو النواة، فعبثاً يتعب السعاة والرعاة وأهل المبادرات.
هؤلاء جميعهم لا يزالون يبشّرون المؤمنين، ولا يقومون بتبشير غير المؤمنين. ففي مسألة الجنوب يعجزون عن فك الرباط مع حرب غزة، وفي مسألة الرئاسة يعجزون عن فك عقدة التعطيل والمعطّلين، وفي المعضلتَين يتحدّثون إلى الذراع ويتغافلون عن الدماغ، وهم يعلمون أن الدماغ ومرجعية القرار ليسا في ساحة الجنوب ولا في ساحة النجمة بل في طهران، وطهران حائرة بين عقيدتها المستحدَثة وبراغماتيتها النفعية الموروثة. عقيدتها الأربعينية (عمرها 45 عاماً ونيّف بجذورها السالفة) جعلتها نظاماً شمولياً تمامياً كلّيانياً غير قابل للمساومة، وبراغماتيتها التاريخية الكيانية (عمرها مئات السنين) غلّبت فيها ذهنية سوق "البازار" والمصالح.
وبين الحالتَين صراع تنتصر فيه العقيدة حيناً ولعبة المصالح حيناً آخر، وعلى هذه الثنائية يجب أن تبني "الخماسية"، كمجموعة أو كدول متفرقة، وساطتها لحلّ أزمتَي لبنان في مصيره الجنوبي، ورئاسة دولته مع نوعية سلطته.
فإذا تعاملت مع العقيدة الإيرانية ستصطدم بموقف جامد يستحيل اختراقه، إلّا بهزيمة مادّية عسكرية وسياسية لا معالم واضحة لها، في المدى المنظور على الأقل.
لذلك، يجب أن يرتكز عمل الدول الخمس، بسفرائها وموفديها مع تنوّع مستوياتهم، على الحالة البراغماتية الإيرانية، خصوصاً أن لهذه الدول بدون استثناء قنوات اتصال وتواصل دبلوماسي ومفاوضات سرّية أو علنية مع طهران، وقد نجحت في عقد تفاهمات واتفاقات معها في الآونة الأخيرة كان آخرها ضبط المواجهة المباشرة بالصواريخ والمسيّرات بينها وبين إسرائيل، وقبل ذلك الترسيم البحري الشهير بين إسرائيل ولبنان، و"اتفاق بكين" مع المملكة العربية السعودية.
ولا يخفى أن "الجمهورية الإسلامية" تميل في هذه المرحلة إلى تغليب براغماتيتها على عقيدتها، حتى أنها بدأت تلوّح بتجاوز عقيدتها التي تحرّم امتلاك السلاح النووي، بحجة الدفاع وردّ الأخطار في حال هدّدت وجودها. فمَن يبرمج عقيدته ويروّضها في المحرَّمات يسهل عليه تطويعها وتسييلها في المكتسبات.
لو كانت إيران لا تزال رهينة عقيدتها التمامية الجامدة، لكانت تمسّكت بمعادلة "كل شيء أو لا شيء"، ولكان انعكس هذا التصلّب على "حزب الله" في لبنان.
هذه الليونة الإيرانية النسبية، خصوصاً بعد الاختبار القاسي في فقدان قيادات سياسية وعسكرية من الصفوف الأولى بين بغداد ودمشق وحدود أذربيجان مع ما رافق هذه الاختبارات من ارتباكات وهشاشة في الاستجابة والتفاعل، تتيح أمام الدول التي تفاوضها مجالاً للأخذ والعطاء على امتداد جغرافية نفوذها من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن، وفي ملفّاتها الأخرى النووية والاقتصادية وعلاقاتها الإقليمية والدولية.
ولا بدّ من أن تكون طهران، بحكم هذه البراغماتية القديمة الجديدة، والظروف الضاغطة والصعبة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، باتت أكثر ليونة وتقبّلاً لميزان الربح والخسارة بين مركز نفوذ وآخر.
لو كانت إيران لا تزال رهينة عقيدتها التمامية الجامدة، لكانت تمسّكت بمعادلة "كل شيء أو لا شيء"، ولكان انعكس هذا التصلّب على "حزب الله" في لبنان.
لكنّها متجهة بوضوح إلى معادلة الدفع والقبض أو البيع والشراء، فإذا لم تحصل على الكُلّ لا تتخلّى عن الجُلّ. وهذا ما سينعكس على وضعيّة "الحزب" بين الجنوب والداخل، ما يفتح ثغرة واسعة أمام نجاح مسعى باريس وواشنطن لوقف حرب الجنوب وتسويق التسوية الميدانية هناك، وأمام مسعى "الخماسية" للخروج من المأزق الرئاسي هنا.
والواضح في المسعيَين أن التوجيه الإيراني يقضي بقبول الجزء لتعذّر الحصول على الكلّ، وليس تشدّد "الحزب" في ربط الجنوب بغزة، واستطراداً بالملف الرئاسي، سوى وسيلة من وسائل التفاوض لرفع السقوف قبل الاضطرار إلى خفضها وفقاً لمقتضيات التسوية، وقد لاحت طلائع الضيق الميداني لديه بطلب التبرّع المالي لتصنيع مسيّرات وصواريخ، وكأنه بدأ يعاني من شحّ الدعم الإيراني بالمال والسلاح.
أمّا ما هو هذا المكسب أو "الانتصار" الجزئي وكيف ستتم ترجمته، فالأرجح أنه سيكون معنوياً في الجنوب لجهة القول باسترجاع النقاط المحتلّة وتثبيت الحدود كثمن لـ"حرب المشاغلة" وللخسائر البشرية والمادية الثقيلة وإخلاء الشريط، وحصّة سياسية جزئية في تكوين السلطة في بيروت، من خارج الرئاستين الأولى والثالثة اللتَين ستكونان معاً من قماشة "الخيار الثالث"، لا على قاعدة المقايضة.
في هذه الحال، تكون البراغماتية الإيرانية اكتفت بمكسب جزئي في لبنان، معنوي دعائي في الجنوب وسياسي متواضع في بيروت، وطوت شعار تصدير الثورة إليه بفعل استعصاء تركيبته، وتالياً تكون قد طوت عملياً مشروع "حزب الله" المعلن والمُضمر في إقامة "الجمهورية الإسلامية" - فرع لبنان، وتسعى إلى التعويض في مساحة نفوذ أخرى.
وكل محاولة للقفز إلى ما فوق هذا السقف المتاح والواقعي ستؤدّي حتماً إلى حرب مفتوحة تدلّ مقدّماتها على مدى 8 أشهر إلى كوارثية نتائجها، وغموض خواتيمها، وتتهيّبها طهران، كما تل أبيب، في حساباتهما البراغماتية والاستراتيجية.