ترتفع "هوائيات" (antennas) اللبنانيين عالياً عند التقاطهم "إشارة" إمكانية زيادة التغذية الكهربائية. بغضّ النّظر عن قدرة البنية التحتية المتهالكة لقطاع الطاقة على استقبال المشاريع الكبيرة وإدارتها بفعالية، فإنّ عبارة "رفع الإنتاج" المذيّلة بـ"تمويل خارجي" كفيلة وحدها بإيهام الرأي العام بأنّ المشكلة يمكن حلّها بهذه البساطة. فهل نتوقّف لحظة عند العراقيل التي لا تخطر على البال فوراً؟
قبل نحو شهر، أشار وزير الطاقة وليد فياض في حديث صحافي إلى أنّ الحلّ المستدام لمشكلة انتاج الكهرباء يتمثّل في بناء معمل واحد كبير. ليعود وزير الاقتصاد قبل أيام ويفجّر مفاجأة إهمال المعنيين في قطاع الطاقة عرضاً قطرياً لإنشاء ثلاثة معامل على الطاقة الشمسية بقدرة 150 ميغاواطاً للواحد، قدّمت إلى لبنان كـ "لقمة بالملعقة" قبل سبعة أشهر.
الحقيقة المرّة
إذاً، تركّز كلّ الحلول على زيادة الإنتاج المحصور راهناً بـ 450 ميغاواطاً فقط، من أصل حاجة تفوق 3500 ميغاواط، وتتجاهل "الحقيقة المرّة" باستحالة تحمّل اللبنانيين عبء الزيادة في ظلّ هذا النهج. فكلّ زيادة في الإنتاج سيقابلها تحسّن التغذية وارتفاع بقيمة الفواتير المحتسبة على أساس أعلى معدّل تعرفة في العالم. وقد برزت هذه المشكلة بشكل فاقع في القرى التي تستفيد من تغذية تصل إلى 20 ساعة من المعامل الكهرومائية، ولا سيّما من معامل الليطاني الثلاثة حيث تراوحت قيمة الفاتورة على المشتركين الأفراد بعد دخول التعرفة الجديدة حيّز التنفيذ منتصف العام الماضي بين 30 و 50 مليون ليرة، على أساس سعر صرف المنصة المحدّد آنذاك بـ 43 ألف ليرة. ولو أردنا إسقاط التعرفة على سعر الصرف الجديد على الفواتير فستتجاوز 60 مليوناً.
بحسب الأرقام، زاد متوسّط سعر الكيلوواط/ ساعة للشريحة الأكثر فقراً التي تسهلك أقل من 100 كيلوواط من 35 ليرة إلى 9000 ليرة، أي أنّه ارتفع 257 مرة. في المقابل، لم يزد الحدّ الأدنى للأجور إلّا 26 مرة، من 675 ألف ليرة إلى 18 مليوناً. وفي ظلّ ارتفاع معدّلات الفقر، فإنّ الغالبية لن تكون قادرة على تسديد فواتير الكهرباء، ولن يحقّق أي مستثمر المنفعة المفترضة.
البلديات هي الحل اليوم وغداً وبعد مئة عام
مشاريع الطاقة العامّة لا تؤمّن الحلّ أيضاً
في موازاة ذلك، فإنّ مشاريع الطاقة الشمسية على مستوى مركزي، تواجه مصيراً أكثر تعقيداً من المعامل التقليدية. فعدا أنّها ستباع بالسعر الرسمي (الإنتاج من المعامل الكهرومائية مثال على ذلك) وليس بحسب كلفة الإنتاج التي يجب ألّا تتجاوز 7 سنتات للكيلوواط، فهي مقيّدة بأكثر من مشكلة، أبرزها:
- عدم وجود كهرباء 24/24 على الشبكة، تسمح بالتبادل الطاقوي.
- عدم وجود العدّادات الذكية، وغياب الثّقة بإمكانية تسديد الدولة لمستحقّاتها، لمصلحة الشركات المنتجة.
- عدم إمكانية تطبيق قانون الطاقة المنتجة والموزعة كونه مرهوناً بالهيئة الناظمة العصيّة عن التشكيل منذ العام 2002.
والدليل على عجز مثل هذه المشاريع على الانطلاق بسلاسة، هو عدم إبصار النور لأيّ مشروع من المشاريع الـ 11 الملزّمة لإنتاج ما بين 11 و15 ميغاواطاً، منذ أكثر من عام. لا بل إنّ عدداً من المستثمرين يعمدون إلى بيع الرخص نتيجة تعقيدات المباشرة.
الهدر عائق إضافي
يضاف إلى كلّ ما تقدّم، ارتفاع نسبة الهدر على الشبكة إلى رقم يتخطّى 30 في المئة، ويصل بحسب تقديرات بعض الاختصاصيين إلى 50 في المئة. خصوصاً من بعد رفع التعرفة إلى معدّلات غير محتملة من قبل الأكثرية. وهذا يعني تقنياً أنّ كل ميغاواط توضع على الشبكة يضيع نصفها هدراً وسرقة، وهو ما يرفع الكلفة بشكل هائل ويحمّل العبء الأكبر على كاهل المكلّفين الملتزمين. هذا عدا ضغط حوالى مليوني لاجئ على الكهرباء وعدم تسديد الفواتير المستحقّة على مخيمات النزوح في ظلّ استهلاك يصل سنوياً إلى 500 ميغاواط، ويحمّل الكهرباء أعباء بقيمة 330 مليون دولار بحسب تقديرات البنك الدولي التي نقلها وزير الطاقة في العام 2017.
ويبقى السؤال الأهم والأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى المواطن هو: ما الحل؟
لامركزية الإنتاج والتوزيع
الأزمة تتفاقم والخطط التي توضع لا تلاقي طريقها إلى التطبيق، وآخرها خطة الطوارئ الاقتصادية التي قال وزير الطاقة بالفم الملآن إنّها "تسير في الاتجاه الصحيح، ولكن لا تطوّر فيها". لتعود مؤسسة كهرباء لبنان إلى الحديث عن خطّة جديدة أعلنت عنها في ندوة في الجامعة الأميركية، تؤمن 8 ساعات في العام 2028. "ولو وضعنا عشرات الخطط ومدّدنا المهل سنوات طويلة، فمن المستحيل تأمين استدامة الكهرباء في ظلّ المعطيات الحالية"، يقول غسان بيضون المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة والباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق. ومن دون الانتقال إلى الطاقة الشمسية على المستوى البلدي بالتعاون مع القطاع الخاص، وفي إطار لا مركزية الإنتاج والتوزيع، ومن ضمن مفاهيم التنمية المناطقية تطبيقاً للدستور الذي يكرّس الانماء المتوازن، لن يكون هناك حلّ لأزمة الكهرباء".
تقرّ مختلف الخطط والتوصيات العامّة برفع كمّية الطاقة المنتجة من مصادر متجددة، الشمس تحديداً، إلى 30 في المئة من مجمل الطاقة المنتجة في العام 2030. ولا يمكن الوصول إلى هذا الرقم ما لم ننتقل إلى سياسات طاقوية أكثر فعالية. فالمشاريع الأحد عشر الموعودة لا تنتج مجتمعة أكثر من 150 ميغاواطاً، في حال تنفيذها، وهي لا تزال معلّقة على إيجاد تمويل خارجي، في حين أنّ مشروع "هوا عكار" دُفن في مهده. وكلّ الإنتاج الفردي الذي يتباهى المسؤولون بتجاوزه 1000 ميغاواط هو إدانة لهم نتيجة تقصيرهم عن تقديم أبسط الخدمات. وعليه، "يبقى الحلّ الأكثر كفاءة هو انطلاق عجلة انتاج الكهرباء وتوزيعها من البلديات واتحاداتها بالتعاون مع القطاع الخاص. فتستغل مشاعاتها الفسيحة المشمسة، ويقدّم المستثمرون التجهيزات ويستفاد من المولّدات الخاصة وشبكتها لنقل الكهرباء، ويتاح بذلك تأمين الكهرباء بكلفة لا تتجاوز 8 سنتات للكيلوواط وبكفاءة أعلى بما لا يقاس. "ويمكن البلديات إيجاد المموّلين الداخليين من المهتمّين أو المغتربين أو الميسورين بسهولة"، يقول بيضون، "وتمثّل هذه الخطوة تطبيقاً فعلياً لا نظرياً لـ"اللامركزية الإدارية والانماء المتوازن" اللذين كرّسهما الدستور في الفقرة (ز) من مقدمته. وقد سبق أن سمحت الدولة لمثل هذه العملية من خلال الترخيص لكهرباء زحلة، بإنتاج الكهرباء من مولّداتها الخاصّة وبيعها. فكيف يمكنها الاعتراض على أيّ انتاج يحقّق المنفعة العامة من مصادر طاقة متجدّدة بشكل يحافظ على البيئة، وبشفافية عالية، كونه يفصل الكهرباء المنتجة من قبله عن كهرباء الدولة. وذلك على عكس ما تقوم به كهرباء زحلة".
البلديات هي الحل، اليوم، وغداً وبعد مئة عام. ويمكن أن تستفيد من صلاحياتها وإمكاناتها للتعاون مع القطاع الخاص وتقديم خدمة لا تعتبر حقاً بديهياً فحسب، إنّما أساسية في حفظ كرامة الإنسان ومساعدته على تحقيق رفاهيته. ولا تتحقّق هذه المنفعة المشتركة إلّا من خلال وعي المواطنين لحقوقهم ومطالبتهم بها وتفعيل عمل المجالس البلدية وتحلّيها بالمسؤولية المجتمعية والقوّة لتنفيذ ما يخدم أبناءها ويصبّ في مصلحة المجتمع.