ظننتُني فرغت من الكلام على زياد رحباني في تجلّياته العبقرية، في المقالتين السابقتين، على هذا الموقع.
الكلام على صاحب "بالنسبه لبكرا شو؟"، لا "بكرا" له، إذ إنَّ زياد رحباني حقل غني بالثمار، وفضاء يتّسع لأجنحة عصافير، وقعرُ بحر محاراتُه ولآلئه أكثر من أن تعدَّ أو تحصى.
ظننتني هكذا، إلى أن مارست إحدى هواياتي اليوميَّة المحبَّبة، وهي الاستماع إلى أسطوانة "فيروز في بيت الدين" الصَّادرة في بيروت عن شركة "ريلاكس إن"، بعد نحو ستة أشهر على الليالي الثلاث التي أحيتها فيروز وختمت بها مهرجانات بيت الدين، صيف العام 2000، وكانت أوَّل لقاء فعلي بينها وبين جمهورها، اللبناني بخاصة، منذ سنوات.
وحدها لحظة ذاك اللقاء بكل تجلياتها الرائعة، مفقودة... إلا لمن يريد أن يغمض عينيه ويتخايلها، أو لمن يعرف كيف يستعيدها من الذاكرة... وهذا ما فعلتُه.
أهمية هذا العمل الذي يكمل، في رأيي، مسار زياد رحباني الموسيقي ورؤيته، أنه لخص فيروز في أبرز ثلاث محطات من تاريخها: مرحلة البدايات، ومرحلة الأخوين رحباني، ومرحلة زياد رحباني. وهو عمل حلم به، طويلًا، زياد رحباني، ملحن معظم مقطوعاته وأغنياته، وشاعرها، وموزعها جميعًا، والحاضر في كل دقائقها والتفاصيل. ولكن، إذا كان بدا، في تلك الحفلات الثلاث، خلف البيانو، على طرف المسرح، كما شاهدته وشاهده الآلاف، عازفًا ليس إلَّا، مفرطًا في ابتعاده عن دائرة الضوء، أنوفًا في تجاوبه مع ردود الفعل ولهيب التصفيق، فهو في الأسطوانة طاغي الحضور، نسيج عالمه الخاص جدًّا، حامل مفاتيح جنة موسيقية، يفتح بها الأبواب على أسرار يجب أن تفشى، وعلى دهشات في حجم أفق.
وأجمل ما في حضور زياد الطاغي هذا، أنه خلفية لمملكة فيروز التي تحكمها العذوبة وكرَّات العنادل، ولحضور فيروز الذي لا يُجارى، ولصوت فيروز الذي، وإن "غزا الشيب مفرقه"، يبقى صوت فيروز، جوهرًا وتميُّزًا... كأنَّا به أمَّنا التي مهما تنازعناها والزَّمن، وكيفما نظرنا إليها، هي "حبُّنا الباقي إلى الأبد".
وزياد رحباني، في تلك الأسطوانة، وفي أعماله الموسيقية عمومًا، ثائر على النمطي في الأدوار، ضمن تناقض مقصود، كأنه يعيد طرح سبب وجود الأشياء.
عمل زياد كثيرًا على هذه الباقة الغنائيَّة - الموسيقيَّة التي تضمنتها الأسطوانة (خمس عشرة أغنية، بينها ثلاث كانت وقتذاك جديدة، وأربع فقط من تراث الأخوين رحباني، وأغنية لسيد درويش، ومقطوعتان موسيقيتان) تلحينًا وتأليفًا واختيارًا وتدريبًا وتوزيعًا، وحتى إقناعًا لفيروز بأداء أغنيات كانت ترفض أن تستعيدها على المسرح أو في أي مناسبة أخرى، من مثل "لا إنت حبيبي"... لكنه سلم دفة قيادة الحفلات للمايسترو الأرمني كارين دورغريان، وفرقته المطعَّمة بلبنانيين (15 عازفًا، و41 منشدًا). فخرج العمل، الذي توافرت له تقنيات تسجيل عالية ومهندسو صوت غربيون، إلى النور كأنه مسجل في استوديو... حسبه أنه قائم على الانسجام التام والاحتراف والدقة في التنفيذ، وهذا ما نفتقده كثيرًا، وما ينبغي أن يسود.
هذا شكلًا، وهو مهم، لأنه المدخل الأسلم لفهم المضمون وتقويمه. وثمة أربعة أبعاد أساسية يمكن تسجيلها و"اكتشافها" في موسيقى زياد رحباني. إنه في هذه الأسطوانة، وفي مفهومه الموسيقي العام، على ما يبدو، يناقض ما قاله يومًا هنري بوانكاريه: "إذا وجدتُ من دون بحث، فلأنني بحثت من دون أن أجد". فزياد يبحث ويجد، ولا شيء عنده عفويًّا. إذ حتى ما يخطر له عفوًا، لا يتابعه ويكمله إلا ليحافظ على عفويته، عملًا بنصيحة والده الراحل عاصي رحباني. إسمع جملة موسيقية له، ترددها من فورك، شاعرًا أنها سهلة. شرِّحها، تكتشف أنك أمام أحجية معقدة، تخالف ما تألفه، وتفاجأ بما تكتنزه الموسيقى من أسرار، لا يقبض عليها إلَّا من اعتنقها عقيدة وأسلوب حياة.
ففي اثنتين من الأغنيات: "صباح ومسا"، و"تنذكر ما تنعاد"، جمل موسيقية بسيطة جدًّا، تتوالد واحدة من أخرى بسلاسة غريبة، وتتنوَّع فيها المقامات، ضمن النوتات القليلة للمقام الأساس، من دون أبعاد Intervalles، أو تمهيد. ولا تكتشف ذلك إلَّا بالتشريح الدقيق للجملة الموسيقية، قراءة للنوتة أو عزفًا. أما الأغنية الثالثة "كبيرة المزحة هَي" فتبدو حقلًا آخر للتجريب، يسمح زياد لنفسه فيه بأن يطوِّع الأبعاد الموسيقية ليجعلها قريبة بعضها من بعض ومن أذن السامع. وله في هذا الإطار أكثر من تجربة ("خليك بالبيت"، "معرفتي فيك"، "بتكذب عليي كتير").
وزياد رحباني، في تلك الأسطوانة، وفي أعماله الموسيقية عمومًا، ثائر على النمطي في الأدوار، ضمن تناقض مقصود، كأنه يعيد طرح سبب وجود الأشياء. وهو هذا التناقض ربما الذي يكوِّن شخصيته الموسيقية الفريدة. فالإيقاع يصبح ميلوديا (نغمًا)، والهارمونيا إيقاعًا، والبداية نهاية، والنهاية بداية، والقفلة الموسيقية لا ترسو Atonale كأنها راسية، والقفلة الراسية تبدو كأنها لم تنتهِ بعد، أو "تنتهي" بكلمة هي بداية الجملة التالية، وصوت الآلة يصبح صوتًا بشريًّا، وصوت فيروز صوت آلة، وأصوات الكورس تتداخل ولا تؤدي المعهود من الجوقة، كأنها في صلب التوزيع الموسيقي. أكثر من ذلك، ثمة إيقاع لا يتوافق والهيكلية الميلودية للمقطوعة أو للأغنية، لكنه لا يخرج عنها!
ويتجرأ زياد الرحباني حين يجعل فيروز تغني "من كلِّ صوتها"، ليس كما اعتدناها في أغنيات الزمن الرحباني السابق. يومذاك كانت تقطف من صوتها مساحات توزع عطرها على السامع، وتترك الباقية على شجرتها. أما مع زياد رحباني فتعرضه بكليته لتقول إنها هنا كلها كما هي، نعومة وعذوبة، قسوة وشدة، شَيِة Nuance وتعبًا. ولتعلن ولادة ثانية لهذا الصوت الذي ازدادت طبقاته الخفيضة، كأنها عسل، كثافة ونقاء. إنه صوت للذكرى، حين تُستعاد "نسَّم علينا الهوا" و"بتتلج الدِّني" و"يا ما احلى ليالي الهوا" و"لا إنت حبيبي". إنه صوت لليوم والغد، حين تصدح بالشعر الطالع من الكلام اليومي والأمور اليومية... و"كيفك إنت" و"اشتقتلك". إنه صوت للقوة الكامنة - المتفجرة، حين تغني المقاومة... و"إذا باقي جنوب، باقي بأولاده". إنه صوت للفرح والطرفة والمفاجأة، حين يتلفن عياش... "متلما كأنو ما تلفن".
ويتجرأ زياد رحباني أيضًا حين ينقلب على مفهوم الطرب. فهذا الطرب ابن ساعته، ونسيج من يؤديه في لحظة معينة، وفي مكان معين ولجمهور معين في هذين المكان واللحظة، فيسمح لنفسه بأن يطوع إيقاع الحياة لمشيئته، ويخرج عن سكة المقام ليعود إليها، بعد أن يضيِّع من يتبعه. أما الطرب، وبالتالي الموَّال، عند زياد، فهو مضبوط بكل تفاصيله... تؤديه الجوقة، ويوزَّع هارمونيًّا، ولا يفقد أيًّا من عناصر سحره. وإذا كانت لجوقات وفرق موسيقية شرقية شتَّى، ريادةً وأسبقية في هذا المجال، فقد أبقته في إطاره المألوف.
أما في ما قدمه زياد رحباني في بيت الدين ("لا تخافي سالم بردان"، "حبَّيتك ت نسيت النوم"، "أهو ده اللي صار")، فثمة ميزة هي أنه طرب من "مدرسته" هو، جوهر الطرب فيه لكن شكله مختلف... لا بل ما بالك بأن تكون جوقة الإنشاد هي المؤدّي وفيروز هي الكورس، كما في "حبَّيتك ت نسيت النَّوم"، الأغنية التي كتبها جوزف حرب، ولحنَّها زياد ورسخت في الذهن طويلًا، إلى أن أضاف إليها جملة لحنية، "وتاركني سهرانه"، مغايرة لما عهدناه، أدَّاها من خلف البيانو بصوته، ثم تكررت صوتًا ثانيًا بأداء قسم من الجوقة، فيما القسم الثاني يؤدي اللَّحن المألوف.
يبقى أن "فيروز في بيت الدين" عمل اتضحت فيه أكثر تجربة زياد رحباني التي يغامر بها منذ العام 1974، من أجل موسيقى للغد، و"سلاحه" فيها، هو نفسه "السلاح" الذي استخدمه الأخوان رحباني، في مغامرتهما، وصنعا به مجدهما... فيروز، حضور فيروز، صوت فيروز.