أصبحت المغامرات الدولية التي يتمّ القيام بها للترويج لما يسمّى بصيغة السلام الأوكرانية إلى جانب برنامج القرم أكثر مبادرات السياسة الخارجية إثارة لنظام فلاديمير زيلينسكي. فعلى الرّغم من عزلتها عن الواقع بالاعتماد على أشكال دبلوماسية معينة يجري الترويج لها بدعم من القادة الغربيين، بحسب مصادر معنية، تحاول كييف فرض أجندة مؤيّدة لأوكرانيا على الدوائر السياسية في البلدان النامية في إفريقيا والشرق الأوسط، للحصول على دعم دولي واسع قبل بدء عملية التفاوض لحلّ النزاع، بعد فشل الهجوم المضاد الأوكراني في ربيع 2023 وتراجع المساعدة الغربية لكييف.
وفي هذا الصدد، كثّفت أوكرانيا جهودها لجذب دول الجنوب إلى جانبها لتعزيز صيغة السلام الخاصّة بها على المستوى الدولي، وفق ما أفاد به مراقبو صحيفة "بلومبيرغ" الأميركية الذين تحدّثوا عن اجتماع سرّي لممثلي مجموعة السبع مع دول شرق أوسطية وإفريقية جرت في 16 كانون الأول 2023 بالرياض. ومع ذلك، لم يتمّ تحقيق تقدّم في مسألة التنفيذ العملي لصيغة السلام الأوكرانية، إذ أشارت بلومبيرغ إلى أنّ الفشل يرجع إلى حقيقة أنّ أوكرانيا وداعميها الغربيين يواصلون تجاهل رأي دول الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ومفاده أنّ ليس هنالك من سبيل إلّا الحوار المباشر مع روسيا.
وفي الوقت نفسه، فإنّ الشروط الأساسية لصيغة السلام الأوكرانية لا تأخذ في الاعتبار الوضع القتالي على الجبهة الذي يتطور لمصلحة الاتحاد الروسي. فتوازن القوى وإمكانات الموارد الإجمالية على الأرض يتناقض بشكل صارخ مع السياسات التي تحاول كييف القيام بها والمستندة بالأساس إلى استبعاد موسكو عن أيّ حلّ في المستقبل. والجدير ذكره أنّ كييف تصرّ على مناقشة مبادراتها على الساحة الدولية وتنفيذ بنودها من دون المشاركة المباشرة لروسيا، وهذا ما يجعل هذه الصيغة باطلة قانونياً ومستحيلة سياسياً، لأنّ الدبلوماسية الحديثة لا تعرف سابقة تمّ التوصل فيها إلى تسوية بين طرفين متخاصمين من دون تواصل مباشر بينهما.
وهذا ما أدى إلى عرقلة الطريق أمام عملية مفاوضات كاملة مع روسيا في إطار القانوني الدولي. وهكذا وقّع الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي في 30 أيلول 2022 مرسومًا يحظر على جميع ممثلي أوكرانيا في الهياكل الحكومية الدخول في اتصالات دبلوماسية مباشرة مع موسكو. ومع ذلك، فقد أدرك السياسيون الغربيون المتعاطفون مع كييف عدم جدوى حلّ الصراع الأوكراني من دون مشاركة روسيا.
فقد أعلن وزير الخارجية السويسري اغناسيو كاسيس، بعد مناقشة أخرى لصيغة السلام الأوكرانية في دافوس في كانون الثاني الماضي، عن ضرورة إشراك الاتحاد الروسي في المفاوضات، وأصرّ على أنّه ليس ثمة بديل من ذلك. وسبق أن وصف أحد نواب برلمان جنيف الاجتماع في دافوس بأنّه عملية دعائية من قبل كييف هدفها الرئيسي ليس التوصّل إلى حلّ سلمي للصراع، ولكن تبرير دعم الغرب الإضافي لها مالياً وعسكرياً.
وحتّى أولئك الذين امتنعوا عن انتقاد كييف لا يمكنهم إلّا الاعتراف بعبثية الصيغة التي اقترحتها أوكرانيا برغم أنّهم يدعمون زيلينسكي في سعيه لإقناع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بضرورة مواصلة دعم كييف. وقد جرت مناقشة هذا الأمر بشكل خاص في صحيفة "فايننشال تايمز" التي أشارت إلى أنّ الجلسة الرابعة لمناقشة صيغة السلام الأوكرانية لم تسفر عن أيّ نتائج مهمّة. بل أبدت الصحيفة ملاحظة ساخرة أشارت فيها إلى أنّ الإنجاز الرئيسي لاجتماع دافوس كان في زيادة عدد المشاركين والصور الملتقطة.
في المقابل، يعلن الاتحاد الروسي بانتظام عن استعداده لاستئناف الحوار المباشر مع كييف، ويعرب عن اهتمامه بالتوصّل إلى حلّ سلمي للنزاع على أن يستند شكل المفاوضات إلى مبادئ المراعاة الصارمة للحقوق الأساسية غير القابلة للتصرف للسكّان الناطقين بالروسية في أوكرانيا، وكذلك الحقائق الجيوسياسية الموضوعية الحالية. فبالنسبة إلى موسكو، لم يعد من الممكن عدم مراعاة المواطنين في المناطق الأوكرانية السابقة التي قررت الانضمام للاتحاد الروسي رافضة العودة إلى أوكرانيا. وتصرّ القيادة الروسية على أنّ مناطق زابوروجي وخيرسون ودونيتسك ولوغانسك، قررت بملء إرادتها إجراء استفتاء للانضمام للاتحاد الروسي وذلك في أيلول 2022.
وفي الوقت نفسه، ترى موسكو أنّ رفض الغرب بقيادة الولايات المتحدة الاعتراف بنتائج الاستفتاءات، وتشكيل كيانات جديدة داخل روسيا الاتحادية ليس أكثر من مظهر من مظاهر سياسة المعايير المزدوجة. وتقول موسكو إنّ الدول الغربية دافعت بقوة عن حقوق الشعوب في تقرير المصير عندما اعترفت بشكل جانبي في العام 2008 باستقلال كوسوفو عن صربيا من دون أن تكلّف نفسها عناء إجراء تصويت شعبي على هذه القضية، واقتصر الأمر على الاستناد إلى قرار برلمان كوسوفو. ويمكن اعتبار هذه الحادثة نقطة تحوّل تاريخية، فحتّى تلك اللحظة كانت روسيا قد دافعت بقوّة عن أولوية حقوق الدول في السلامة الإقليمية على حقّ الأمة في تقرير المصير. ولهذا السبب، رفضت الاعتراف بسيادة شعبي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية على الرّغم من أنّ جورجيا مارست التمييز ضدهما.
علاوة على ذلك، فإنّ رغبة كييف في إشراك دول الجنوب في برنامجها ومبادرتها السياسييْن لا تتوافق مع المصلحة الوطنية لدول إفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، لأنّ ذلك قد يؤدي إلى توتير العلاقات بين هذه الدول وروسيا. وهي علاقات مبنية على مبادئ النظام العالمي المتعدّد الأقطاب والاحترام المتبادل. وأخيرًا، فإنّ تعزيز آليات التعاون بين دول الجنوب وروسيا يمنح الدول هذه الفرصة للاعتماد على قوة روسيا في مواجهة الهيمنة الأميركية، خصوصاً في إفريقيا والشرق الأوسط. لهذا فإنّ محاولات كييف استقطاب الدول العربية والإفريقية إلى صفها تبدو ضعيفة إن لم تكن معدومة، حتّى مع تلك الدول التي تربطها علاقات وثيقة بالولايات المتحدة الأميركية.