استطاعت الحكومات المُتعاقبة منذ تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم، نقل قسم كبير من عجز موازناتها إلى موازنات مصرف لبنان. هذا الأمر تمّ بواسطة قوانين شُرّعت في المجلس النيابي ومن خلال ثغرات في قانون النقد والتسليف. في هذه العجالة، نُظهر أنّه إذا لم تُلغَ القوانين التي "تُلزم مصرف لبنان إقراض الأموال إلى الدولة اللبنانية"، لا يُمكن استعادة الثقة لا بمالية الدولة ولا بالمصرف المركزي ولا بالقطاع المصرفي.
إدارة ماليّة الدولة كارثية
بالطبع كلّنا نتذكّر العدوان الهمجي والجرائم التي ارتكبتها الماكينة العسكرية الإسرائيلية وعقيدة زئيف فلاديمير جابوتنسكي الإجرامية التي اتّبعها الجيش الإسرائيلي في العام 2006، والتي كلّفت لبنان الكثير من الخسائر البشرية والمادية. آنذاك، وجدت الحكومة نفسها في حاجة إلى كمٍ كبيرٍ من المال لتغطية النفقات الناتجة من هذا العدوان. في تلك الفترة لم تكن هناك موازنة، وبالتالي أخذت الحكومة تُنفق على أساس القاعدة الإثني عشرية، والمبالغ التي تحتاج إليها موّلتها من خلال اعتمادات من خارج الموازنة مع غطاء قانوني أمّنه لها مجلس النواب.
وعلى الرّغم من تدفّق الأموال من مؤتمرات ستوكهولم وباريس 3، تضاعف الدين العام بشكلٍ كبير إذ ارتفع من 38.5 مليار دولار أميركي في نهاية العام 2005 إلى أكثر من 71 ملياراً في العام 2016 (وهي الفترة التي لم تشهد موازنات)! وهذا الدين بمُعظمه (85%) كان مُموّلًا من القطاع المصرفي بحسب تقرير "بنك أوف أميركا – ميريل لينش" في تشرين الثاني 2019. وبالتالي، أصبح هذ النهج في إدارة المال العام هو النهج المُعتمد من قبل الحكومات المُتعاقبة – عنيت بذلك تمويل عجز الدولة من قبل القطاع المصرفي.
هل مصرف لبنان مُلزم إقراض الدوّلة؟
تنصّ المادّة 88 من قانون النّقد والتسليف على أنّه بإمكان مصرف لبنان منح الخزينة، بناء على طلب وزير المال، تسهيلات صندوق لا يُمكن أن تتعدّى قيمتها 10% من متوسّط واردات موازنة الدوّلة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها، ولا يُمكن أن تتجاوز هذه التسهيلات 4 أشهر. وهذه الإجازة لا يجوز استعمالها أكثر من مرّة واحدة خلال إثني عشر شهرًا (المادة 89).
أمّا المادّة 91 فقد منحت إمكانية في ظلّ ظروف استثنائية أو في حالات الضرورة القصوى، إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف علماً بذلك. ويدرس المصرف مع الحكومة إمكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي أو عقد قرض خارجي أو إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى أو إيجاد موارد ضرائب جديدة إلخ…
"وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنّ لا حلّ آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، فيمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب".
حينئذ يقترح المصرف على الحكومة، إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ ممّا قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة، وخاصة الحدّ من تأثيره، في الوضع الذي أعطي فيه، على قوة النّقد الشرائية الداخلية والخارجية.
الجدير ذكره أنّ هذه المادّة هي بالتحديد المادة التي استخدمتها الحكومات المُتعاقبة للاقتراض من المصرف المركزي.
وحدّدت المادة 93 الفائدة التي تنتج من هذه القروض نسبة إلى أوضاع السوق حيث أنّه لا يمكن أن يكون معدّل الفائدة على تسهيلات الصندوق المشار إليها بالمادة 88 أقلّ من معدّل الحسم المعمول به لدى المصرف مخفّضًا واحدًا. أمّا معدّل الفائدة على القروض المُشار إليها في المادتين 91 و92 فلا يمكن أن تقلّ عن معدل الحسم المعمول به لدى المصرف مضافًا إليه واحداً.
من هذا المُنطلق، نرى أنّ المُشرّع حدّد في قانون النقد والتسليف كلّ الحالات المُمكنة، وعلى رأسها شروط القرض، الذي لا يُمكن أن تزيد مدته على عشر سنوات ومثله سعر الفائدة.
مُخالفة واضحة للقوانين
أكبر مثال على مخالفة السلطة لقانون النقد والتسليف، هو المثال التالي: تمّ التصويت في موازنات العامين 2018 و2019 على قروض من مصرف لبنان إلى الحكومة (ومؤسسة كهرباء لبنان) بفائدة 1% في حين أنّ الفوائد كانت في ذلك الوقت على الليرة اللبنانية بحدود الـ 13.5%.
بحسب أرقام المركزي، بلغت كلفة هذه القروض على مصرف لبنان في العام 2018 ما يُقارب الـ 6.5 مليار دولار أميركي، والكلفة في العام 2019 ما يُقارب الـ 3 مليارات دولار أميركي. وعلى الرّغم من أنّ القروض كانت بالليرة اللبنانية، تمّ إعطاء الأموال بالعملة الصعبة على سعر صرف 1507.5 ليرة للدولار الواحد (لشراء الفيول وتمويل حاجات الدولة بالعملة الصعبة). وبالتالي، تحمّل مصرف لبنان وحده عبء تداعيات نقل عجز الموازنات العامّة إلى موازنات مصرف لبنان، وظهرت النتائج في وقت قصير بعد ذلك. وهنا يُطرح سؤال: من أين موّل مصرف لبنان الدولارات؟ بالطبع من موجوداته التي كانت تضمّ ودائع المصارف.
إنّ كلّ قرض (أو تسهيلات) قدّمه ويُقدّمه مصرف لبنان للحكومة اللبنانية خارج شروط قانون النّقد والتسليف، يُعدّ مخالفة للقانون. لكنّ الأهمّ هو أنّ فرض قروض على مصرف لبنان لتمويل عجز الخزينة هو مخالفة واضحة للقوانين العالمية التي ترعى المصارف المركزية واستقلاليتها، وهو السبب الرئيسي لما آلت إليه الأوضاع في القطاع المصرفي اللبناني. وهو ما يفرض إلغاء فوري للمادة 91 من قانون النقد والتسليف.
ألا يزال المصرف المركزي يُموّل الحكومة؟
التحاليل التي قُمّنا بها تُشير إلى أنّ المصرف المركزي لا يزال يُموّل الحكومة أقلّه من باب الكهرباء. وبحسب المُعطيات الأولية، هناك مُستحقات للدولة العراقية بالليرة اللبنانية تبلغ نحو ملياري دولار أميركي، أي 179 تريليون ليرة لبنانية أو 3.4 أضعاف الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الموجودة في السوق. وهنا يُطرح سؤال: كيف ستُدفع هذه الأموال، خصوصًا أنّها لم تُدرج لا في موازنة العام 2023 ولا في موازنة العام 2024 بل هي في حسابات المركزي؟
حتّى اليوم، لا يستطيع حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري رفض طلب الحكومة تمويله إذا ما استخدمت هذه الأخيرة المادّة 91 من قانون النقد والتسليف من دون أيّة قوانين إضافية في المجلس النيابي
في الختام، بما أنّ القوى السياسية المُمثّلة في المجلس النيابي هي من تنتخب رئيس الجمهورية، وتُعيّن الحكومة التي تُعيّن بدورها حاكم البنك المركزي والمناصب القضائية والمالية... فإنّ فصل السلطات، كما نصّ عليه الدستور، غير متوفّر أقلّه في التطبيق. من هنا نرى أن محاولة إصلاح القطاع المصرفي تبدأ قبل كلّ شيء بمنع الحكومات من الاقتراض من المصرف المركزي تحت أيّ عذر كان، وإلّا فلا ثقة بالقطاع المالي اللبناني.